ما زلنا نعيش عصر البطولات الوهمية، ولا يمكن لأحد ان ينكر ذلك فهناك من ينتظر المنقذ الذي يعيد للأمة مجدها بينما المجد في العمل الجماعي والتعامل مع الآخر بذكاء. والزعامة الناجحة هي تبني الداخل لا التي تخلق حروبا وهمية خاسرة مع الآخر. (1) يبدو ان فكرة القوة رغم بريقها لا تكفي ابدا للبقاء وفي اعتقادي ان كثيرا ممن يعتمدون على القوة في بقائهم لا بد انهم زائلون يوما ما. والتاريخ يعطينا امثلة كثيرة على ذلك فما يبقى من الامبراطوريات التي حكمت الارض إلا اسماؤها، واطلالها. بريق القوة الذي يخطف الابصار هو جزء من «وهم التاريخ» والقوة الغاشمة هي جزء من الفخ الكبير الذي يقع فيه الاقوياء ليتحولوا بعد خروجهم من التاريخ ذاته إلى مجرد اساطير. عندما اقرأ التاريخ يشدني دائما خروج القوي منه رغم جبروته ورغم هيمنته، وكنت اسأل نفسي عن اسباب البقاء، وأتذكر المقولة المشهورة «البقاء للأقوى» وأسأل نفسي هل صحيح أن البقاء للأقوى، إذن سنواجه الفناء، وأقصد نحن العرب والمسلمين، فنحن في اضعف حالاتنا، ولا نستطيع ان نتباهى بأي قوة حتى اننا لم نعد قادرين على حماية أي شيء حتى انفسنا. فهل نحن نواجه هذا الفناء حسب منطق القوة ام ان هناك منطقاً آخر أكثر واقعية، فالتاريخ يقول ان الأقوى هو من اختفى وفنى وبقى من نستطيع ان نقول انه كان الاذكى. فمن هو الأذكى وكيف نستطيع ان نحدد ملامحه؟ وقد اغراني هذا القول فمسألة أن نكون الأذكى يبدو انها غير مستحيلة بينما مسألة الأقوى أراها بعيدة جدا في الوقت الراهن. وبين الأقوى والأذكى هناك «المغامر» ويبدو لي ان كلاً من الأقوى والأذكى مغامران لكن الأول متهور كونه قوياً وللقوة إغراءاتها وإفراطها في الثقة وهو ما يجعل القوي يخرج من دائرة التاريخ لأن المغامرة غير المحسوبة مهلكة. (2) عندما سمعت (وهو موضوع لا يمس كثيرا تصادم القوي بالذكي، على الأقل من حيث الشكل) عن الجامعات الثلاث الجديدة التي اقرتها وزارة التعليم العالي قلت في نفسي سوف اتحدث عن هذا الموضوع فقد تم انشاء جامعات حكومية خلال العامين المنصرمين بما يعادل ما انشئ من جامعات خلال نصف القرن الأخير وطرأ لي ان اعنون ما سأكتبه ب «في التعليم العالي الكم لا يكفي» وقد اطربني هذا السجع لولا انه دار بخلدي ان من سيقرأ المقال سيقول هؤلاء الكتاب «لا يعجبهم العجب ولا الصيام في رجب» فقد ظلوا يتحدثون عن عدد الجامعات القليل وانصراف طلابنا إلى الخارج وعندما انشئت جامعات جديدة لم يعجبهم هذا التسارع الكمي فماذا يريدون؟ وعندما قرأت ان وزارة التعليم عازمة على وضع خطة استراتيجية للتعليم العالي للخمس والعشرين سنة القادمة وانها فعلا وقعت عقد هذه الدراسة لم يعد لي حجة وقلت ان الوزارة هذه المرة سدت كل منافذ النقد والانتقاد ولكني قلت في نفس الوقت سوف ننتظر ونرى ما ستسفر عنه هذه الدراسة وما سيكون من امر تأثيرها على جودة التعليم العالي. (3) ويبدو ان اغراءات نهاية العام الدراسي تدفع للكتابة عن أي شيء إلا التعليم وقرارات الوزارة اتت في وقت لا يشجع فعلا على الكتابة في التعليم وموافقا لمحنة القبول السنوية والكم هنا هو الحل الملائم ويريح العديد من «الكميين» في بلادنا. المهم لم اجد أي اغراء يدفعني للخوض في هذه المسألة كما ان زيارة الوزير الفلسطيني نبيل شعث لجريدة (الرياض) وحديثه عن السياسة وفتحه لكل الجروح العربية المستعصية والاخفاقات «الدبلوماسية» الكثيرة بل والدائمة التي تميز سياستنا العربية جعلتني اعيد النظر في مسألة «البقاء للأقوى» وقلت اننا بحاجة إلى استراتيجية جديدة تركز على نظرية البقاء للأذكي خصوصا عندما ردد الوزير عبارة أننا يجب أن نتعامل مع امريكا بما لا يسمح بالمواجهة المسلحة وبما لا يدفع للاستسلام، وهي عبارة مثيرة كونها تؤكد على أهمية فكرة «البقاء للأذكى». ويبدو أن خلط التعليم بالسياسة هو ما يمكن ان يحقق فكرة «الأذكى» هذه، فهل نحن بحاجة لخريجي جامعات ام لمتعلمين اكفياء قادرين على إدارة مستقبل الأمة؟ ربما هذا ما يجعلني ادخل في موضوعات غير مترابطة واقفز (كالعادة) إلى عدة مساحات في وقت واحد وهو ما سيحدث كذلك هذه المرة. (4) والحقيقة انني لا استطيع ان انكر ان هذا التحليل مريح نفسيا بالنسبة لي لأننا في وضع لا نحسد عليه والضغوط التي نواجهها كبيرة واننا بحاجة ان نبحث عن سبل تدعم فكرة «الأذكى» لأنه امر متاح بالنسبة لنا على الأقل وقد استغل غيرنا هذا المبدأ ونجح وأصبح اخطبوطا رغم انه كائن صغير جدا. وأقصد هنا اسرائيل التي استطاعت ان تنجح في اقناع الولاياتالمتحدةالامريكية بأنها تستطيع ان تفعل كل شيء لحماية المصالح الأمريكية في المنطقة وان تتلون بكل الألوان لتؤدي هذا الدور. وهو ما يذكرني بحكاية الضفدع الذي يصدر صوتا طوال الليل من اجل جذب انثاه فهذا الصوت هو مصدر القوة ويجذب الانثى إليه ايما جاذبية لكن للأسف فإن هذا الضفدع لا يستفيد من صوته الشجي الذي ينادي به الانثى لأن ضفدعاً آخر يعترض الطريق ويصور نفسه انه صاحب الصوت ويفوز بالأنثى بينما يظل ذلك الضفدع في زعيقه طوال الليل، وقد عرضت ذلك قناة ديسكفري كي تثبت عكس مقولة «دارون» التي يؤكد فيها حتمية الاصطفاء النوعي وبقاء الاقوياء، كما انها عرضت امثلة أخرى توضح فكرة «البقاء للأذكى» وهي امثلة في مجملها قائمة على سرعة البديهة واستغلال المواقف والابتعاد عن البطولات الزائفة. (5) لقد اثارتني تلك الأمثلة الفطرية واعتقد ان كثيرا من البشر يمارس مثل هذا النوع من السلوك الذكي، بل ويوظفه من اجل البقاء وأبسط مثال يمكن ان اضربه هو نحن العرب الذين نعيش حالة زعيق طوال الوقت بينما اسرائيل هي من تفوز بنتيجة زعيقنا. انها الأذكى وعلينا ان نعترف بذلك لأننا بحاجة لمثل هذا الذكاء كي نستعيد بعض توازننا. ولنتذكر ان اسرائيل تخصص موازنات للبحث العلمي اكثر من الموازنات التي تخصصها الدول العربية مجتمعة لنفس الغرض ويوجد فيها جامعات ومراكز بحوث عملاقة مقارنة بالجامعات العربية الهزيلة. ولعل هذا يعيدني للمقارنة بين الكم والكيف في مسألة التعليم العالي لأنه ليس مهما ان يتعلم كل افراد المجتمع في الجامعات فهذه قضية ثانوية مقارنة بتأثير المراكز والمؤسسات العلمية على نهضة وتطور المجتمع. ومن الواضح ان التركيز على مسألة التعليم هو جزء من صناعة «الأذكى» وهو الذي يمكن ان يعطينا فرصة جديدة للبقاء في ظل غياب «الأقوى» من قاموسنا المعاصر (والحمد لله على ذلك) لأن البحث عن الأقوى هو الذي احدث هذا الوضع البائس في الدول العربية لأنه لم يكن هناك تقدير منضبط للإمكانات التي نمتلكها وكان هناك جري نحو اوهام معروف مسبقا انها لن تتحقق. لقد كان هناك تغييب متعمد للعقل وكانت نتائجه مدمرة إلى حد كبير. (6) ويبدو اننا ما زلنا نعيش عصر البطولات الوهمية، ولا يمكن لأحد ان ينكر ذلك فهناك من ينتظر المنقذ الذي يعيد للأمة مجدها بينما المجد في العمل الجماعي والتعامل مع الآخر بذكاء. والزعامة الناجحة هي تبني الداخل لا التي تخلق حروبا وهمية خاسرة مع الآخر. انني انظر لسقف مطالبنا في فلسطين وكيف صارت تتناقص عاماً بعد عام حتى اصبح ما كان نرفضه قبل عشرين سنة نتمناه اليوم ونقدم من اجله كل فروض الاستسلام، لا أحد يستطيع ان يقول ان هذا سلوك ذكي ومن الواضح اننا نفتقر لمثل هذا السلوك لذلك نجد احوالنا تتردى، فنحن لسنا بحاجة للقوة (على الأقل في الوقت الحاضر) لكننا في حاجة ملحة للتعامل بدهاء مع الآخر الأكثر منا قوة. فقد سئمنا مثلا من إلقاء اللوم على الولاياتالمتحدة في كل قضايانا فكل مواقفها ضدنا وهي تخطط لهدمنا وهي لا ترانا ابدا عندما يكون مفترضا منها ان تنصفنا. ثم ماذا، لا شيء لن تتغير امريكا لمجرد اننا نقول ذلك ولومها غير مجدي ولن ينفعنا في شيء فنحن بحاجة إلى أن نكون الأذكى وان نكون مثل ذلك الذي يوهمها انه الأصلح للتعاون معها وحماية مصالحها. على انه ما حدث ويحدث هو عكس ذلك فبدلاً من اعادة صياغة العلاقات مع الولاياتالمتحدة نجد بعضنا يتحداها ويقوم بغزوة منهاتن، وهي غزوة بررت للقوي الاعتداء علينا فهل هذا سلوك ذكي؟ إذن نحن امام ظاهرة من تراكم السلوك غير الذكي (ولا اريد ان اقول الغبي لأنه ليس كل سلوك غير ذكي يعتبر غبياً) في ثقافتنا العربية فلقد ارتكبنا عدة اخطاء وما زلنا نكررها بنفس الوتيرة ولم نتعلم ابداً من التاريخ. (7) هناك عبارة لهتلر يقول فيها «يجب أن تكون الكذبة كبيرة حتى يصعب تكذيبها» وقد اعجبتني عبارة للوزير الفلسطيني نبيل شعث يقول فيها «يجب ان تكون للكذبة جذور أو وجود» أي ان تكون نصف كذبة. فلا يوجد كذبة كاملة. وقد حاولت ان اقارن بين العبارتين وأيهما هي الاذكى، إذ يبدو اننا نعيش عالما يعتمد على الكذب ولا اعتقد ان الضفدع لم يكذب ويقنع تلك الانثى بأنه صاحب الصوت الشجي كي يحظى بها، فهل كانت كذبته كبيرة حتى انها لم تستطع ان تكذبه او انه كذب نصف كذبة عندما اعترض الانثى في نفس الطريق الذي توقع منها ان تسلكه نحو صاحب الصوت. فجذور الكذبة موجودة فهو ذكر ضفدع وهو ينتظرها في الطريق الصحيح. ويظهر لي ان «نصف الكذبة» فيها ذكاء كبير لأنها تعتمد على الخيال وتلفيق كل شيء وحبك «الحدوته» حتى تكون حقيقة. ويظهر لي ان فكرة «أن الحقيقة ليست مهمة بل استشعار الحقيقة هو الأهم» أي كيف نرى هذه الحقية هو المؤثر. واعتقد ان هذا يتوافق مع فكرة «نصف الكذبة» التي تصنع من الحقيقة شيئاً آخر ليس له علاقة بالواقع ويصدقه الجميع. على أن الأمر المحزن هو اننا ضعفاء جدا رغم اننا نكذب كثيرا لكننا لا نعرف ان نكذب كذبة كبيرة يصعب تكذيبها ولا ان نكذب نصف كذبة تكون غامضة يمكن الشعور بصدقها رغم انها مجرد كذبة. ويبدو اننا نحب الكذب ونمارسه بإفراط لكننا لا نتقنه (مثل كثير من الأشياء) ولا اريد ان اقول اننا فشلنا حتى في الكذب لأن ذلك سيكون امرا مضحكاً.