الوعي بالحقيقة يعين على رسم معالم المستقبل بواقعية وحكمة، والشريعة ما جاءت إلا لتحقق مصالح الناس، كل الناس بمختلف طبقاتهم وقدراتهم ومراتبهم، وبمنتهى الواقعية التي تراعي الفروق والشروط المجتمعية، إذا استقر هذا في أذهاننا وعقولنا سهل علينا التخلص من الاستلاب والخضوع غير المبرر لايشك عاقل أن الراعي الرسمي الحقيقي للتعدد هو المتعة بلا منافس، سواء أنكر أو راوغ المعددون أو المؤيدون للتعدد، ربما تحضر حكايات أخرى مندسة في خبايا عتمة المتع بمسميات وأهداف أخرى، لكن السبب الرئيس والمتصدر أسباب المعددين هو البحث عن المتعة والتزود منها،مهما كلف الأمر من تضحية؛ باستقرار البيوت والأسر؛عماد المجتمعات، ومن حسابات المودة والرحمة؛ سكنى النفوس. تعدد الزوجات والجواري ميزة للعرب مذ عرفوا، ولقد وجد الإسلام المرأة متاعاً من المتاع ومتعة من المتع، وورثاً يورث كما يورث المال، فقد روي في تفسير الطبري عن ابن عباس أنه قال: "إذا مات الرجل وترك جارية، ألقى عليها حميمه ثوبه، فيمنعها من الناس، فإن كانت جميلة تزوجها وإن كانت قبيحة حبسها حتى تموت"هذا إن سمح لها بحق الحياة في مجتمع جاهلي يخشى أن يلحقه من بناته العار والشنار، وفي مفارقة عجائبية كان الرجل الجاهلي الذي يشارك في العار ويستلذ به في مجالس لهوه وأنسه وسط محظيات وجوار - هو نفسه - من يئده ليتخلص منه! يرتبط الموقف بالتعدد، بتاريخ الرق في الإسلام، فالتعدد مظهر أو وجه من وجوه الرق بطريقة ما.. يروي الجاحظ "أن الجواري، كنّ من نفيس المتاع الذي يتهاداه الناس وكان عدد الجواري يزيد على عدد الحرائر في منازل كبار القوم والأثرياء". فهل استطاعت مدة أربعين سنة هي كل عمر الخلافة والنبوة أن تمحو قروناً من رواسب الجاهلية في العقل العربي الذي أسلم، أم استطاعت أن تحرّره من سلطان الموروث الجاهلي ومن ضمنه نظرته للمرأة ومكانتها ودورها؟ إن الشرخ التاريخي الهائل بعد عهد النبوة والخلافة الراشدة أوجد مظلومية مجتمع وأمة، ونتج عنه ظلم عم البلاد والعباد، وقضية المرأة جزء منه..فلقد تأججت روح الموروث الجاهلي بعد أربعين سنة من وفاة الرسول، وأصبحنا أمام وضعية من الظلام الحالك، أهينت فيها المرأة أسوأ إهانة، ومُست في كرامتها وآدميتها وحريتها، وهكذا قيدت مظلومية المرأة التاريخية ضد الرجل وأنظمة القهر والاستبداد والملكيات الوراثية، في عهديّ بني أمية وبني العباس. لقد كان حصر عدد الزوجات بأربع في عصر منفلت بأعداد لامحدودة يصعب البحث فيها عن ذات وكيان خاص نقلة تتغيا العدل في توجهها، وترسم له طريقاً واضحاً لارتياده،(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) . ومسؤولية إقامة العدل امتدادية متدرجة من الرسل لبقية البشر على امتداد الزمان، وكون المصلحة تتغير، فالأمر في المباح يقود التشريعات بتدرج تتلمس به النفوس مواطن أعلى للعدل، وتترقى بهم في مدارج الكمال المرتبطة بالزمان والأحوال والحاجات، لذلك قال عليه أفضل الصلاة والتسليم "أنتم أعلم بأمور دنياكم"، بل وبنقلة أعلى تتوخى الخيرية في المؤمن أوصى"استفتِ قلبك" وهي دلالات توجّه مضبوطة بحكمة المصلحة العامة المتسقة مع العدل المنفتح على الإنسان، الإنسان بإطلاقه. فالسمو الحقيقي يكمن في كوننا نسمو لنقارب الكمال، رغم بشريتنا وطينيتنا التي تشدنا إلى أرض واقع عصي، خلق الإنسان ليعيشه ويبتلى فيه. في ظاهرة التعدد تظهر سمة غالبة امتدت من فقهاء القدماء إلى المحدثين في التعامل مع النص وهو تشبث الجميع بجزء من الآية وهو"فانكحوا" وهو اقتطاع من الآية ومن السياق، رغم أن تعدد الزوجات جاء مشروطاً بالخوف من عدم القسط في اليتامى، غير أن الفقهاء لم يعتبروا بالشرط واعتبروا بالحكم مطلقاً، إضافة لعدم القسط في اليتامى هناك شرط آخر حددته الآية ونفت إمكانية وقوعه في آية أخرى نفياً قاطعاً لم يستثن منه؛أحدٌ أو حالة، وهو شرط العدل بإطلاق "ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم". عاملَ هذا النفي بعض المهتمين بالربط بين الأحكام والمقاصد العليا على تحريم التعدد، إلا أنهم قلة. ومع إلحاح العدل "مطلقاً" في الآيتين إلا أن غالبية الفقهاء والمفسرين أفرغوا مبدأ العدل من كل محتواه وجعلوه مقصوراً على الجماع والنفقة! ومع التشبث بتعدد الزوجات واعتباره أمراً قطعياً فإنه لايمكن عزل القرآن عن الإطار التاريخي الذي كان فيه والاعتراف بأننا في تاريخ مختلف تماماً، فالمجتمع الجاهلي عرف تعدد الزوجات والإماء دونما حد ولا عدد،ولعل تقييده بأربع مع اشتراط الخوف من عدم القسط في اليتامى، ومطلب العدل بمفهومه الشامل يعتبر أمرا تقييدياً يتجه في المجمل لتربية النفوس لتقبل إلغاء التعدد، لذا يلاحظ أن ما نص عليه القرآن وما ذهب إليه الفقهاء أمران متباعدان، بل ويسيران في اتجاهين متناقضين، يخلط الأصل بالفرع ويلغي تحوط المؤمن إزاء قيمة مرتبطة بوجود الإنسان؛ وهي العدل. وكما أن غالبية النفوس تشمئز من أن تسرق امرأة من حرب قد تكون زوجة لآخر لتصبح رقيقاً لهذا السارق وقد تكون حبلى ما يسبب اختلاط الأنساب، إلا أن التعدد لازال يحظى بميل جارف يتجاوز بعض أهله ليجعلوه الأصل في العلاقة الزوجية، ففي المنظور الأخلاقي الرق قريب روحي للتعدد، كلاهما يرِد على حوض المتع والشهوات، وكما كانت نفوس تهين أخرى بالرق حقباً طويلة من الزمان، فقد ظلت تستجير بتمسكها بالتعدد ليملأ فراغ الاستمتاع بالاستعباد، في حين قررت دول حقوق الإنسان إلغاء الرق ومنع الاتجار بالبشر!! وبالعودة للفقه فمن الواضح أن انتفاء التفسير المقاصدي للنص لدى الفقهاء وأتباعهم من المحدثين، أدى بهم إلى الابتعاد كلياً عن المعاني الأخلاقية التي تضمنتها الرسالة، كما أن نظرتهم للمرأة وجهت كل الأحكام الفقهية المتعلقة بها، فلم تخرج المرأة عن كونها أداة متعة وإنجاب، ما كرس تراتبية اجتماعية اعتبرت المرأة دون الرجل، ما أدى إلى هضم حقوقها في كافة أمورها، وهو الملاحظ في كثير من الدول الإسلامية. ربما أجد الكثير من الطعن كوني أرغب بما يرغب به الباحثون عن مستوى أعلى من العدالة والإنسانية، وحسبي أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إليه، فحكاية فاطمة وعلي عليهما السلام خير دليل يقدم لكراهة الرسول للتعدد على ابنته، وهو دليل لأصحاب المهج السليمة بكراهته عامة، يقول صلى الله عليه وسلم معاتباً علياً : "يا عليّ ! أما علمت أن فاطمة بضعة مني ، فمن آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذاها بعد موتي كان كمن آذاها في حياتي، ومن آذاها في حياتي كان كمن آذاها بعد موتي" (وهي حادثة مرصودة في كتب السنة والشيعة تختلف في قليل من التفاصيل وتتفق على المعنى الأصل). مع ذلك فبحثي يتجاوز حق المشروعية، وهدفي يتوخى رغبة العدالة أو الترقي في سلّمها بما يليق بإنسان اليوم، فإذا كانت غاية الشريعة تحقيق مصلحة الإنسان، فلا يشك عاقل بأن مصلحة الأسر هي في استقرار شأن "المودة والرحمة" المقياس الأصل لإنشاء مؤسسة الزواج، المصرح به في كتاب الله كآية من آياته العظيمة، فليس هناك سكن مع إيذاء المودة والرحمة، ومشاعرالغبن والقهر، وماذا أكثر من رقٍّ يهدم المرأة أقوى وأشد عذاباً من تخلي صاحبها إلى أخرى !؟ سواء أكان ذلك عبر الزواجات المعلنة أو السرية الخائنة!! كم هو محزن ؛ فحيثما نقلب صفحات الماضي نجد صدى قضية المرأة في كتب فقهائنا القدامى على شكل متون حيض ونفاس وحواشٍ وفتاوى وبلاوٍ، أما المرأة الوجود والإنسان فهي مقهورة مقموعة، وفي ظل التقديس لمؤسسة الفقه ورجالها أصبح إسلام اليوم كما جسد بلا روح، فالفقه الذي وضع لآن أصبح في الضمير لكل زمان، والحاجة اليوم ملحة لإيلاء مقاصد الشريعة المكانة المثلى في سن التشريعات المدنية، وتغليب مقتضيات الضمير للخروج مما نتعرض له من مشاكل حقوقية في واقعنا اليوم. تجاه مبدأ العدالة والمساواة تتفاوت المجتمعات في تشريعاتها وقوانينها،إلا أن البعض عند المقارنة يلجأ للخلط بين المشروع واللامشروع في العلاقات دفاعاً عن رؤيته، بينما سلامة المقارنة تقيم الوجوه المشروعة لإقامة الحجة ولا تلتفت لغيرها، لكن تكرار التهم التي هي في حقيقتها دفاع عن النفس كلما جاء الحديث عن حقوق المرأة الغربية في واحدية العلاقة؛ كاتخاذ الخليلات والعشيقات ينبئ عن نظرة طائشة لا متأملة، وكأن القول بواحدية العلاقة إثم وعار؟!، أم أننا رغم الزواجات العديدة والمتنوعة خالون من الخيانات الزوجية؟! لدينا منها الكثير والكثير رغم الانفتاح على التمتع بطرق سرية كالمسفار والمسيار والمطيار وكل مايمكن أن تبدأه بميم تعقبه نوع من علاقات إلهائية أدرجت ظلماً وعدواناً بمسمى زواج، وما هي إلا متعة تبدأ من الجسد وتعود إليه. الوعي بالحقيقة يعين على رسم معالم المستقبل بواقعية وحكمة، والشريعة ما جاءت إلا لتحقق مصالح الناس، كل الناس بمختلف طبقاتهم وقدراتهم ومراتبهم، وبمنتهى الواقعية التي تراعي الفروق والشروط المجتمعية، إذا استقر هذا في أذهاننا وعقولنا سهل علينا التخلص من الاستلاب والخضوع غير المبرر لأنظمة الاتباع الفقهاتية تقليداً وتقديساً وبحثاً عن مبررات لستر عوراتها. والخلاصة أن كل خطوة تحرير لعقولنا من إيديولوجيا الاستبداد وعقدة عادة التقليد والتقديس هي خطوة كبرى على درب تحرير الإنسان..