حين كنت حلاقاً في مدينة اللاذقية، رغبت في القيام بعمل ينفع الناس، وكان أنفع عمل، في ذلك الوقت، هو تحرير سورية، وطني، من الاحتلال الفرنسي، إيماناً مني بأن تحرير الوطن يأتي في المرتبة الأولى، وبعد ذلك يصح الكلام على التقدم الاجتماعي، لأن الاحتلال والتقدم يتعارضان، ولا بد، كي نرتقي، من أن نتحرر أولاً، والمعركة، في هذه الحال، هي المعركة لأجل الاستقلال، واجلاء المحتلين الفرنسيين عن أرض الوطن، لذلك ألقيت بنفسي، وبحماسة كبيرة، في خضم النضال العارم، المتضرّي بغير هوادة، عارفاً أن مصيري، في ما أنا آخذ به، هو الموت أو السجن، وكان من حظي أنني لم أمت، لكنني عرفت السجن مرات عديدة، وفيه تعلمت أبجدية المعرفة، من السجناء السياسيين، من دون أن يخطر في بالي، ولو للحظة واحدة، أن هذه المعرفة المختزنة، في صندوق الدماغ المقفل، سينفك قفلها يوماً، وأفيد منها في كتابة أشياء تنفع الناس، وأن النضال بالجسد، سيكون، في المستقبل، نضالاً بالقلم، وأن هذا هو الطريق المستقيم للغاية التي أنشدها، والتي تبدأ بالمفاداة، وما فيها من تجارب مريرة، ثم لا تنتهي إلا بمفاداة أكبر، قوامها اقتران القول بالفعل، في معاناة شديدة لرسم ما في الرأس، كلمات منضرّة على الورق، ف «الصمت موت، والقول موت، قلها ومت!» وقد قلتها، بأشكال مختلفة، ولم أمت، وخوفي كله، وأنا على مشارف الثمانين، ألا أموت، وعندئذ يكون القدر قد انتقم مني انتقاماً، آمل ألا يكون! قرائي يعرفون أنني بدأت الكتابة بتحبير الرسائل للجبران، وكتابة العرائض للسلطات، من أجل تزفيت هذا الشارع، أو اصلاح هذا الرصيف، والمطالبة بتحسين الرغيف، ومكافحة الغلاء، وتأمين العيش، في أبسط معانيه، للشعب بعامة، وللفقراء بخاصة، وأنني كتبت، أول ما كتبت، مسرحية أنا بطلها، وفي هذه المسرحية أغيّر العالم في ستة أيام، واستريح في اليوم السابع، كما كتبت بعض الأقاصيص، ومنها قصة «طفلة للبيع» التي نشرتها مجلة «الطريق» اللبنانية في العام 1954م، وبها يتأرخ بدء محاولاتي الأدبية، في دكان الحلاق الحقير الذي أسميته، نكاية بحقارته، «صالون الزهور»! وقد كانت المشكلة العويصة التي واجهتني، وأنا حلاق، افتقاري إلى مَن يعطيني رأيه فيما أكتب، وسعيي الخائب، لدى طلاب جامعة دمشق، الوحيدة في سورية آنذاك، لإبداء رأيٍ في خربشاتي المضحكة على الورق، لذلك آليت على نفسي، بعد أن استقام لي خط الكتابة، وصرت، من غير أن أعرف كيف، من المشهورين بين الكتّاب العرب، ألا أرد كاتباً ناشئاً، أو كاتبة ناشئة، في طلب رأيي بما يكتب، أو ما يكتب. إلا أن المسألة، بعد هذا العمر، ومع التدرج في الشهرة، غير ما كنت أظن تماماً، فالوفاء بالواجب يتطلب وقتاً، ولشد ما ضحيت بوقتي، في سبيل أن أقرأ ما يعرض علي من نتاج الناشئين، في سورية والوطن العربي والعالم، وتقديم ما ينبغي من ملاحظات، تحتمل الخطأ والصواب، لكوني متذوقاً ولست ناقداً، ولم أكن مقدراً، في البدء، تبعات ما أخذت به، حتى لو سهرت الليالي الطوال، ما دام الاتجاه، الآن، مغرياً إلى حد لا يصدق، بكتابة أي شيء، رغبة في الظهور، من دون إيلاء الاهتمام اللازم، الضروري، في تجويد هذه الكتابات، والوثوق، بقدر ما، أنها صالحة للنظر فيها، وإبداء الرأي حولها، ومن قبل بعض النساء خصوصاً، اللاتي يندفعن إلى تحبير الورق، قبل امتلاك أدنى مقومات الكتابة الأدبية، ظناً منهن أن كل شيء يصبح أفضل مع الأيام، وما عليهن سوى المتابعة، الامعان، الاجتراء على رسم الحروف، وتالياً الكلمات، ورصف بعضها إلى جانب بعض، فيما يُسمونه قصيدة النثر! إن الظاهرة، في ذاتها، جيدة، وتتطلب التشجيع، ودخول المرأة ميدان الإبداع بشارة خير، إلا أن قصيدة النثر ليست رصف كلمات، كيفما اتفق، وهذا ينطبق على المرأة والرجل، وليس من المعقول، أو المقبول، أن يصدر، في سورية وحدها، أربعة آلاف ديوان من قصيدة النثر، في العام 2001م، والأنكى من ذلك، الانتقال المتسرع، من قصيدة النثر إلى الرواية، هذه التي أصبحت الموضة، منذ تنبأتُ، في العام 1982م، أن الرواية ستكون ديوان العرب في القرن الواحد والعشرين، فإذا بها تصبح ديوان العرب في القرن العشرين نفسه! وإذا كان من الميسور، والهيّن، أن يقرأ المرء قصيدة النثر، فليس الأمر كذلك مع الرواية، وليس كذلك مع المسرحية، أو الدراسة والنقد، أو مجموعات القصص القصيرة، فهذه تستغرق وقتاً طويلاً، لا يتفق والإلحاح الممطر، كحبات البرد، على الرأس، مهما يكن القارئ متفرغاً، ومتفهماً لإلحاح الملحّين، المنتظرين رأياً، أو ملاحظة، أو حتى إشارة، حول ما يكتبون! لقد قلت، غير مرة أن درب الرواية رحب، يتسع للجميع، وأن من الكم يخرج الكيف، وأن المستقبل للروائيين الشباب، إلا أنني، كروائي، عاجز عن قراءة مخطوطات الروايات التي تنهال علي، من دون أن أنسى أن قراءتها واجب، وأنني، في بداية طريقي الأدبي، كنت محتاجاً، من دون الحاح، لمن يعطيني رأياً في الذي أكتب. سأزعم أنني كاتب مشهور الآن، وأن علي دفع ثمن هذه الشهرة، في حدود المستطاع، أما تجاوز ذلك فإنه ارهاق، لا قِبَل لي به، وعندما تنقلب الشهرة إلى جحيم، يتمنّى صاحبها أن يعتزل أو يموت، فإذا كان للموت أجل محتوم، فإن الاعتزال، في المبتغى المريح، يراود. قال الجواهري: سلام كله قُبَلُ أنني راحل عَجلُ وللخلاص من جهنم الشهرة، فإن بيت الجواهري يصبح أمنية محسوبة على الراحة المنشودة،من دون يأس، ومن دون أن يسقط القلم الذي لولاه ما كانت الشهرة، وما كانت الراحة، وما كان الكفاح به لأجل المناضلين من أخوتنا في فلسطين، ولأجل البائسين الذين منحناهم حبات القلوب