كان بودي أن أكتب اليوم عن المعرض الدولي للتعليم العالي في دورته الثالثة، ولكن خشيت ألا أكون محايدا في ذلك بسبب الارتباط الوظيفي، إلا أنه واكب هذه المناسبة العالمية انطلاقة غير مسبوقة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المكان والتوقيت والرسالة، وهو حدث يستحق الكتابة. أذكر ذات مرة أنني ناقشت في برنامج كنت أقدمه عبر قناة الإخبارية موضوع الحسبة، ولم نذكر "الهيئة" تجنباً لحساسية التوقيت آنذاك، ومع ذلك لم تتجاوب الهيئة بإرسال متحدث عنها، ولم يجرؤ كثير من المهتمين بالمشاركة خوفا من أن تؤوّل آراؤهم التي يشاركون بها، بينما حضر المناوئون للهيئة في البرنامج ومثلت الطرف الغائب. اليوم اختلف المشهد تماما، وأستطيع القول إننا باتجاه مؤسسة صديقة للمواطن والمقيم والزائر لهذه البلاد، فرسالتهم سامية، وأثرهم واضح، ولا يستطيع عاقل أن ينكر أهمية الدور الذي تضطلع به الهيئة ولكن المنصفين والخصوم كانوا يتحفظون على الكيفية التي تؤدي بها الهيئة أدوارها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كانت أحداث سبتمبر 2001م مناسبة لنبش تفاصيل المجتمع السعودي، وعمل مراسلون أجانب وصحفيون سعوديون وعرب على كشف ممارسات خاطئة نسبت إلى هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ بعضها صحيح، وكثير منها ضخّم وبولغ في الإعلان عنه بهدف الإساءة ليس للهيئة فحسب وإنما للدين الإسلامي والمجتمع السعودي ومؤسساته. وكان المجتمع منقسما بين مدافع على طول الخط عن الهيئة على ظاهر النص انصر الهيئة ظالمة أو مظلومة، وبين من تساوت عنده حسنات الهيئة وسيئاتها، فما هي عندهم إلا ذنوب، وهناك فئة تتلون فتخفي الرضا عن دور الهيئة وتعلن السخط أو الحياد السلبي حتى لا توصف بالرجعية في بيئاتها التقدمية. ومن يراجع عقداً من الزمان في الأدبيات الغربية، وحتى العربية الليبرالية يجد مصطلح الشرطة الدينية عنوانا لافتا لمؤسسة الهيئة. بل وصل بأحد الأمريكيين أن تصور أن الهيئة هي الذراع العسكرية للوهابية متخيلًا أنهم برشاشاتهم يجوبون الشوارع السعودية؛ وعندما شرحت له حقيقة المصطلحين عام 2002م في واشنطن انصرف وهو في شك من الأمر وإن كان مع الوقت صارحني بأنه تغير كثيرا في حكمه على الداخل السعودي. كل شيء قابل للتطوير، والهيئة مثلها مثل أي جهاز خدمي يخضع للتطوير، وما يميز الهيئة عن غيرها هي الروح الحماسية التي يعملون بها، وما يضخه الاحتساب في دمائهم من إخلاص وحرص. وأتمنى أن يدعم التطوير تلك الروح ويعززها ويوجد لها من التنظيمات والتشريعات ما يجعلها ميزة مضافة لمنسوبي الهيئة لا نريدهم أن يفقدوها أبدا. لأكون صادقاً في التعبير عن الحاجة للهيئة التي تصل بالبعض إلى درجة تخزين رقم الهيئة في هواتفهم للشعور بالاطمئنان. جميل جدا أن تتطور العلاقة بين المجتمع والهيئة، وأن يستمر تحسين أجهزة الهيئة وطريقة عملها، وأن تعمل على وضع الأنظمة المتعلقة بالأخلاق العامة، والمحافظة على المجتمع من الممارسات التي تخدش حياءه. ليس هناك مجتمع حر على نحو مطلق، وإنما لكل بيئة حدودا في الحرية وإيذاء المشهد العام بممارسات لا يقبلها المنطق والذوق السليم أو التعدي على خصوصيات الآخرين يعد مخالفة تستوجب العقوبة. كل ما يخدش الحياء، والتحرش، والممارسات غير الأخلاقية هي في صميم عمل الهيئة ونحلم ببيئة ملتزمة بالأخلاق الفاضلة دون تطرف أو إقصاء أو فرض رأي واحد لتضييق الواسعات من أمور معاشنا. في كل مجتمع هناك أنظمة مكتوبة يجب الالتزام بها، وكثيرا ما تعلن على مداخل الأسواق وفي الأماكن العامة ومن يخالفها يعاقب وبشدة. أعتقد أن الهيئة بقيادة الشيخ د. عبداللطيف آل الشيخ قد أعلنت عن نفسها بشكل أكثر من رائع في المعرض الدولي للتعليم العالي، وأرجو أن تواصل الهيئة سعيها لفرض المعروف والنهي عن المنكر ولكن بالطرق الحضارية المناسبة، ومن المهم أن تبقى للهيئة هيبتها من خلال تطبيق النظام بقوة وبدون تهاون. وأعانهم الله على عتب الأحبة في الفترة القادمة..