لو تصفحنا أدب الستينات وما بعده، سنجد كلمة "الثورة" تتكرر في كتب النقد والأشعار الروايات وفي كثير من النصوص التي انتجها العرب. ولا نحتاج إلى كبير عناء كي ندرك الأسباب، ولكن خطاب "الثورة"، بقي كامناً في ديباجات الأجيال التي عايشت الأحداث السياسية في درجاتها القصوى: الحروب والانقلابات، وبينهما صعود المد الثوري وانحداره. كان الأدب شاهداً على الحالين، بل نموذج لتمثلاته في كلا المنعطفين الحاسمين: الصعود والانحطاط. فأسرفت الروايات والقصائد خلال العقود الأخيرة في التنقل بين صور من اليأس والإحباط، تلك التي تقارب كل أشكال الوعي البائس للمثقف الذي عقرته الأنظمة وانتزعت منه أحلامه الثورية. خلال العقود التي شهدت سقوط الأيديولوجيات الكبرى، حاول المثقف العربي إعادة تعريف دوره، فلم تعد فكرة الطليعي والرسولي تثير اهتمامه، وإن ظلت تدغدغ نرجسيته وتشعره بالإحباط، وهو يشهد صعود نماذج جديدة من الطليعيين والرسوليين يتمثلون بشيوخ الجوامع ومثقفي الإعلام والفضائيات. ولا يعني هذا أن المثقف العربي قد تخلى عن دوره السابق، فكثير من المناظرات التي تشهدها الساحة الثقافية أو التي تظهر في نصوص الكتاب الكبار او المشاهير، تشي باعتقاد راسخ بأهمية ما يقولون، فهم في الغالب يخاطبون الجماهير التي اعتادوا عليها، او خبروها خلال صعود مجدهم، ويمكننا إدراك هذا المنحى في لغة الكاتب وإشاراتها ودلالاتها وطريقة اعرابه عن مقاصده. وبقي بعضهم - حتى بعد اندلاع الانتفاضات العربية - مسكوناً بهذا الدور حتى وأن خلت خشبة مسرحه من نظّارة او مشاهدين. وعلى الرغم من تلك الاستمرارية، كان ثمة شعور يسيطر على الثقافة العربية، وهو أنها تعيش مأزقاً حقيقياً، وهي مهزومة ومأزومة من أنظمة استبدادية قمعتها او أخضعتها إلى عملية ترويض منظمة. ومع أن بنية الاستبداد العربية شغلت حيزا كبيرا من تنظيرات المثقفين واحتلت مساحة واسعة في قصائدهم ورواياتهم، ولكنهم في الغالب، نجحوا في تجنب السؤال الحارق حول دورهم في صنع هذه البنية، فما من مثقف عربي نجا من كماشة الأحزاب الشمولية، ولم نجد في مراجعة الأدباء والفنانين والمفكرين أدوارهم السابقة في الحياة الحزبية ما يساعدنا على الاعتقاد بفائدة تُذكر للتجربة في مقاربة الأفكار. الأدب العربي او الأدباء العرب شهدوا بعد الثورات العربية التي انطلقت قبل عام، معارك مصيرية من نوع مختلف، فالثورات هي الحلم الذي شبعوا يأساً من تحققه، ولكنه جاء بعد رحلة أضنت المجتمع وأضنتهم، ولم تشهد كل تواريخ الثقافة العربية انفصالا وغربة بين المثقف "الحداثي" والناس مثلما تشهد اليوم. فبعد أن كف الأديب عن التغني بأحلام الناس، ودأب على العودة إلى ذاته في رحلة أرادها بعضهم أقرب إلى ارتحال صوفي، صحا على واقع لم يحلم به يوما. فاجأته الثورات العربية، بمدها العارم وجماهيريتها الضاربة، واستنطقت كل خزينه السابق عن الحلم بأوطان بديلة. ولكن الحلم لم يلبث طويلا في ساحات الثورة، فقد استيقظ المثقف على جماهير غير جماهيره، بعد ان طوتها الأحزاب الإسلامية وحتى السلفية تحت عباءتها. لعل الصدمة التي ولدّتها تلك المشاهد، لا تكمن في طبيعة الجماهير التي غدت تحدد مصائر الثورات، ولكن في طبيعة رهانات المثقف وتنظيراته عن مفهوم الثورات وقواها المحركة وطريقتها في ترتيب الأولويات. هذا الحال دفع أدونيس لنشر ما يشبه المانفستو الذي يصوغ للثورة بنودها وشرعية قيامها. اللمسة السحرية للجماهير الحقيقية، الجماهير الشعبية، محت كل تنظيرات المثقف السابقة، وساعدته على الصحو، او اصابته بصدمة من نوع جديد. فهو الآن في خرس عن مقاربات نظرية يتمثل بها الثورة في صيروتها الجديدة. ومع ان مخاض الانتفاضات العربية، لا يعني بالضرورة مستقبلا زاهرا للبلدان العربية، بل في كل منعطفاتها يكمن العنف وتزداد ضراوة الصراعات، غير أن المؤكد ان ما يحتاجه المثقف العربي اليوم، مكابدة فكرية من نوع جديد، كي يكون شاهدا على عصره، او ملتزما بقضاياه على حد تعبير سارتر. الانتفاضات العربية اليوم تحصل في زمن معولم ومستقبلها سيؤثر في حراك الأفكار ليس على صعيد المنطقة وحسب، بل على صعد عالمية. انها تشتغل داخل بؤر صراع خطيرة، حيث مكامن الطاقة العالمية وحروب الهويات، بما فيها الهويات الدينية، وهي تنذر بانفجار لا يبقي ولا يذر. وفي الظن ان دور المثقف العربي سيكتسب أهمية وفاعلية وديناميكية، في ما إذا استطاع ان يرتفع على صوت التعصبات والتوترات التي تحركها منابع الجهل والتخلف في العالم العربي، من طائفية وشوفينية، الى رفض التعايش مع الآخر المختلف مهما كانت درجة اختلافه. لعل كل الأحداث والوقائع بما فيها الهزات الكبرى والثورات، تحتاج إلى وقت طويل كي تصبح موضع درس على مستوى البحث الفكري والمقاربات الأكاديمية، بيد ان نتائجها الأوضح في حيز الثقافة العارفة، ستكون في قدرتها على إعادة رسم خرائط الحقول المؤثرة في العربية كلغة ومعارف وتصورات عن العالم. ولا نعرف مدى امكانية صمود الشعر على الاحتفاظ بمكانته السابقة في الثقافة العربية، في ظل التبدلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، ولكن الأصوات التي وقفت ضد الثورات العربية أكثرها من مشاهير الشعراء، الأمر الذي يساعدنا على سوق افتراض يقول إن تلك الثورات تشكل منعطفاً لزمن يختلف عن السابق، حتى في ذائقته التي تحددها وسائل اتصاله، بما فيها الفيس بوك والتويتر وسواها. هل استشعر الشعراء نهاية حقبتهم؟ ربما او ربما هذا الافتراض محض تصور يسرف في تخيلاته. ولكن لماذا لم يتريث أدونيس وسعدي يوسف وأنسي الحاج، ونزيه أبو عفش، في إعلان مواقفهم ضد الثورات. في حين قلة من كتاب الرواية او المشتغلين في حقول أخرى اعلنوا مواقف مضادة، وحتى في هذه الحالة، بقي صوتهم خافتاً حيياً، او لا يوازي صوت الشعراء الهادر بالرفض. هل كان الشاعر ضحية حلمه الثوري الذي ايقظته الانتفاضات العربية على واقع لا يشبهه؟ أم أن دور الشاعر ككاهن وعراف في الثقافة العربية، قد استيقظ الآن بعد أن مهدت له مآلات الثورات نفسها؟ ستجيب الأيام عن هذه الاسئلة.