ليس بمستغرب أن نجد للحياة الاجتماعية حظاً أوفر من نظم هذه البلاد المباركة القائمة على تحكيم شرع الله تعالى، وفي مقدمتها النظام الأساسي للحكم الذي أبان في مادته (9) أن: (الأسرة هي نواة المجتمع السعودي)، ونص في المادة (10) منه على: (أن تحرص الدولة على توثيق أواصر الأسرة)، وأكد في المادة (11) بأن المجتمع السعودي يقوم: (على أساس من اعتصام أفراده بحبل الله وتعاونهم على البر والتقوى والتكافل فيما بينهم)، وذلك إيماناً بأن إنتاج المجتمع يظل طليعة محاور تنميته المستدامة، بل والمحصلة النهائية لما يعايشه المجتمع من مظاهر وسمات، وما يربط أفراده من روابط وصلات. وبإزاء ذلك فإن من معوقات التنمية تزايد ظاهرة التفكك الأسري لاعتماد رقي المجتمعات على وجود أسرة قائمة بوظائفها بشكل سليم تحقق أهدافها من خلال أفراد إيجابيين قادرين على تحمل المسؤولية الملقاة عليهم بالمساهمة في تطوير المجالات كافة. وإن اهتمام الدولة حرسها الله لَهَدْي كتاب الله السانّ للخلافة التي لا تتَحَقّقُ إلا برباط الزواج، ويشير إليه الله تعالى بقوله سبحانه: (وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً)، ميثاقٌ يريد الله له البقاء، مع اعتبار حاجات النفس البشرية وتقلباتها، والرائد في ذلك قوله عز وجل: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة)، فإن ما اختل هذا وجب التروي لأن للنفوس إقبالاً وإدباراً، وفي الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام لمن طلق ثلاثاً: (أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم)، فإن استحكم الخلف ولم ترتدع النفس؛ فالتروي أيضاً بأخذ خبرات من سبق ممن يرتضيه الزوجان، يبعثان مصلحين هاديين في ترفق وتصعد مفصل يوضح غاية الشرع المطهر نبراسه قوله سبحانه: (وعاشروهن بالمعروف). وقد حددت الشريعة الإسلامية واجبات كل فرد تجاه أسرته، والعلاقات ما قبل الانفصال وما بعده، حتى من جهة الصلة، والبر، فضلاً عن النفقة، والحضانة، والإرث، وغير ذلك من مسائل، وأوضحت أن حل كل تلك المشكلات إذا تم على وفق أحكامها خفت أضراره، وغلبت مصالحه، وأدام الصلة بالمعروف والإحسان. وبما أن المنظومة العدلية تسهم بشكل مباشر في الحياة الاجتماعية بصفة أصيلة ومستمرة من خلال رعاية الحقوق والحريات المعتبرة المنصوص عليها شرعاً ونظاماً، ابتداءً وانتهاءً، لأن حفظها يُسهم في رخاء المجتمع وازدهاره، ولأن فلسفة الخدمة الاجتماعية تستند على افتراضات عدة أهمها: الإيمان بكرامة الفرد وقيمته الإنسانية، واحترام حقه بالعيش الكريم بما يلائمه، وحقه في تقرير مدى حاجته، فإن لقاء القضاة والعلماء والباحثين والمهتمين على طاولة البحث والمناقشة، والنظر والمدارسة، معين ولا ريب في تحقيق شراكة رائدة، وعطاء مثمر مستمر، ومن هنا كانت فكرة الملتقى العلمي الموسوم: رؤية مستقبلية للمشكلات الأسرية في المحاكم الشرعية بمشاركة ثلة منتخبة من المتخصصين، في سعي عملي وتطبيق واقعي من وزارة العدل بقيادة وزيرها الطموح د. محمد العيسى وتوجيهاته الحكيمة لتحقيق شراكة يجتمع فيها قطاع القضاء بمؤسسات الرعاية الاجتماعية ضمن المسار العلمي لمشروع الملك عبدالله لتطوير مرفق القضاء. وفي هذا المحفل العلمي إضافة، إذ يتطرق لموضوعات مستجدة وتجارب ناجعة متباينة من دول شتى؛ فيعرض لفاعلية برامج تأهيل المقبلين على الزواج وطرائق تحديثها، ومشكلات المجتمع السعودي في زواج بعض أفراده بالأجانب، ووسائل الوقاية من الوقوع في الطلاق، والدور المهني لمكاتب الخدمة الاجتماعية والمصالحة والتوفيق في محاكم الأحوال الشخصية في الحد من القضايا الأسرية، والأحكام الشرعية والنظامية للانفصال الأسري، والإجراءات المنظمة للطلاق، والأبعاد النفسية والاجتماعية له، والآثار الناجمة عن الحرمان من رؤية الأطفال ضحايا النزاعات الأسرية، وصندوق التكافل العائلي للنفقة، والإجراءات التنظيمية للاستقطاع المباشر للنفقة وآلياته، وتحديد مقدار النفقة في ظل المتغيرات الاقتصادية، وإجراءات التقاضي في محاكم الأحوال الشخصية وتبسيطها، وعلاج العنف الأسري، وسواها من أوراق عمل وأبحاث جديدة محُكّمة في هذا المضمار. جدير بالذكر أن إحصاءات الوزارة الرسمية تشير إلى انخفاض معدلات الطلاق في المملكة بشكل لافت، وسيكون لهذا الملتقى بإذن الله أثراً مستقبلياً إيجابياً في ذلك. وفي سياق النهوض بالقضاء، ولئن تعددت وسائله، بيد أن من أبرزها: مواصلة الاجتهاد الفقهي قصد معالجة القضايا المستجدة؛ كما قال الغزالي عن الاجتهاد إنه: (كن عظيما في الشريعة)، والسبب وفقاً للشاطبي هو أن: (الوقائع في الوجود لا تنحصر فلا يصح دخولها تحت الأدلة المنحصرة ولذلك احتيج إلى فتح باب الاجتهاد)، ويستحسن أن يكون الاجتهاد الفقهي جماعياً مؤسسياً صادرًا عن علماء ومتخصصين. ولا جرم أن لتسهيل إجراءات التقاضي أثراً في ريادة المؤسسة القضائية حتى يتوصل الناس إلى حقوقهم بسرعة وفعالية، حتى في تنفيذ الأحكام من أجل ضمان حسن سير العدالة وأدائها؛ فالعدالة ليست في أن يصل صاحب الحق إلى حقه فحسب، إنما العدالة في أن يستوفي حقه في يسر وبغير عنت في زمن قصير، مع تهيئة فسحة زمنية تتسع لاستعمال الروية في إعداد وسائل الدفاع. على أن الأخذ بوسائل الإثبات المعاصرة غدا أداة ضرورية يعتمد عليها القاضي في التحقق من الواقعات ليزهق الحق الباطل، وفي هذا يقول ابن القيم: (فإذا ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه، والله سبحانه أعلم وأحكم وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه شيء ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة وأبين إشارة فلا يجعله منها، ولا يحكم عند وجودها بموجبها، بل قد بين سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده، وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين ليست بمخالفة له)، وفي عصرنا الذي كثرت فيه المستجدات؛ تظهر كدلائل جديدة: الأوعية المعلوماتية غير الورقية، والبصمة الوراثية كهوية للشخص التي ثبت أن لها فوائد كثيرة في العلاج والوقاية، خاصة في إثبات نسب الولد بوالديه، وكشف هوية المتهمين بالجرائم وغير ذلك. والواقع بات يفرض – بالإضافة إلى وسائل الإثبات المعروفة - الأخذ بوسائل إثبات حديثة في مختلف المجالات. غير أن اعتماد محاولة الصلح بين الأطراف المتنازعة لا يزال حلاً مثالياً لإذابته الخلاف، ووضع حد للنزاع، واجتثاث جذور العداوة من النفوس، وقد حثت الشريعة الإسلامية عليه، ورغبت فيه، وحفزت إليه، قال الله تعالى: (والصلح خير)، وقال: (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم)، وقال: (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم)، وقال: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس). لذا: ينبغي اعتماد هذه الطريقة المهمة كحل لتسوية النزاعات بغير التقاضي لصبغتها الإنسانية السامية ولا سيما في المشكلات الأسرية، امتثالاً لقول الله تعالى: (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما). وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. * وكيل وزارة العدل