خلقت فضيحة ووترجيت التي انفجرت في السبعينيات وتصادمت بها الامتيازات الرئاسية لإدارة الرئيس نيكسون مع الدستور الأمريكي حقبة تاريخية وعصرا ثقافيا مختلفا وأصبحت لاحقا كلمة «جيت» تستخدم في وصف العديد من الفضائح التالية التي كان بعضها مرتبطا بشخصيات سياسية مميزة وكانت اقل أهمية من ووترجيت.. والنتيجة أن فضيحة ووترجيت أصبحت رمز الفضائح في الصحافة الغربية وأحيانا كانت تشير إلى نوعية الجرائم المرتبطة باستخدام تسجيلات صوتية في محادثات خاصة بأبرز شخصيات الحكومات الغربية وأحيانا أخرى بالأسرة الملكية البريطانية وأحيانا ثالثة بأكبر رجال المال والأعمال في العالم. كان من بين الفضائح الكبرى التي ارتبطت أيضا برؤساء الولاياتالمتحدة واتخذت من لاحقة «جيت» عنوانا لها فضيحة إيران كونترا أو إيران جيت والتي وقعت في عهد إدارة الرئيس الأمريكي رونالد ريغان وارتبطت ببيع الإدارة لأسلحة بشكل سري إلى إيران التي كانت وقتها طرفا في حرب ضروس مع جارتها العراق وهي الحرب التي استمرت من 1980 إلى 1988. وقد حملت وقت فضحها اسم إيران جيت في الصحف الأمريكية وغالبا اسم إيران كونترا وارتبطت ببيع إدارة ريغان لأسلحة إلى إيران وتحويل عائدات صفقة بيع الأسلحة للحركة المضادة لثوار نيكاراغوا الذين كانوا يحاربون للإطاحة بالحكومة اليسارية وحزب الساندينيستا الذي كان يحكم نيكاراغوا. وكانت صفقة بيع الأسلحة لها هدفان متزامنان الأول استرضاء إيران التي كان لها تأثير على الجماعات التي أسرت عددا من الرهائن الأمريكيين في لبنان وقيل أنها وراء عدة تفجيرات في دول أوربية شرقية، والهدف الثاني تمويل حرب عصابات الهدف منها الإطاحة بحكومة نيكاراغوا المؤيدة للنظام الشيوعي والتي تساندها كوبا والاتحاد السوفيتي. وكانت إجراءات صفقة بيع الأسلحة قد سارت ضد قوانين الكونغرس الذي يحرم تمويل الحركة المضادة لثوار نيكاراغوا وبيع الأسلحة لإيران. وبالإضافة لذلك فان جميع تلك الأنشطة كانت تشكل تعديا على عقوبات الأممالمتحدة وقتها. كانت الحكومة الإسرائيلية قد أقامت اتصالا مع حكومة الولاياتالمتحدة في أغسطس 1985 وقدمت لها عرضا ان تقوم بدور وسيط لشحن 508 قذائف أمريكية مضادة للدبابات من طراز TOW لإيران مقابل إطلاق سراح الكاهن العبري بينجامين واير الرهينة الأمريكي الذي احتجزته جماعة مؤيدة لإيران في لبنان ومع اتفاق ان تقوم الولاياتالمتحدة بشحن قذائف بديلة لإسرائيل.وكان روبرت ماكفارلاين مساعد الرئيس رونالد ريغان لشؤون الأمن القومي قد اجرى لقاء مع وزير الدفاع الأمريكي كاسبر واينبيرجر آنذاك ورتب لتفاصيل الصفقة. وقد بدأ التنفيذ خلال الشهرين التاليين.في نوفمبر كانت هناك جولة أخرى من المفاوضات، حيث عرضت إسرائيل ان تشحن 500 قذيفة مضادة للطائرات من طراز HAWK في مقابل إطلاق سراح بقية الرهائن الأمريكيين المحتجزين في لبنان. وقد حاول وقتها الجنرال كولن باول ان ينجز الصفقة ولكنه سرعان ما أدرك ان الصفقة سوف تتطلب إشعارا من الكونغرس، حيث ان قيمتها تتعدي 14 مليون دولار. وكان رد فعل ماكفارلاين قوله ان الرئيس قد قرر ان يدير عملية البيع بأي طريقة. وأرسلت إسرائيل شحنة مبدئية ب 18 قذيفة إلى إيران في أواخر شهر نوفمبر ولكن الإيرانيين لم يوافقوا على القذائف وألغيت الشحنات التالية.و لكن المفاوضات بين إيران وإسرائيل استمرت طوال شهور بعد ذلك. في يناير 1986 وافق ريغان على خطة يقوم بموجبها وسيط أمريكي وليس إسرائيليا ببيع الأسلحة إلى إيران في مقابل إطلاق الرهائن وان توجه أرباح الصفقة إلى حركة كونترا أو الحركة المضادة لثوار نيكاراغوا. في البداية رفض الإيرانيون الأسلحة التي نقلت عن طريق الوسيط جوربانفير الوسيط الإيراني عندما قام كل من اولفر نورث وجوربانفير بالحصول على نحو 370٪ ربح من خلال رفع سعر الصفقة.و قد استخدم وسيط آخر لبيع 500 قذيفة من طراز TOW مع رفع السعر الأصلي ليصل إلى 10 ملايين دولار بدلا من 3,7 مليون وعندها قام الإيرانيون باحتجاز المزيد من الرهائن بعد ان أطلقوا الرهائن السابقين وكانت هذه نهاية صفقة الأسلحة مقابل الرهائن وفي فبراير شحنت ألف قذيفة من طراز TOW إلى إيران. وخلال شهر مايو التالي وحتى نوفمبر كانت هناك شحنات أخرى من أسلحة مختلفة وقطع غيار لها. عائدات بيع الأسلحة حولت عن طريق الكولونيل اولفر نورث مساعد مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بويندكستر لتوفير الأسلحة ضد ثوار نيكاراجوا. الساندينيستا في النهاية خسروا السلطة في انتخابات محلية عام 1990 وقد رأى بعض المحللين ان هذه الهزيمة كانت بسبب دعم الولاياتالمتحدة ضد الثوار، بالإضافة إلى تأثير الحظر التجاري الأمريكي الذي بدأ في مايو 1985. الولاياتالمتحدة اتهمت الساندينيستا بأنهم يحصلون على دعم من الاتحاد السوفيتي وكوبا وبدعم الثوار الجناح اليساري ضد الولاياتالمتحدة والحكومة في السلفادور التي كانت في المشهد الخلفي ضحية حرب أهلية مدمرة طوال فترة الثمانينيات. في عام 1985 فازت حركة الساندينيستا بغالبية الأصوات في الانتخابات التي أقرت شرعيا من قبل الملاحظين المستقلين من الدول الغربية بأنها عادلة وحرة ولكن إدارة ريغان عارضت الانتخابات واعتبرتها مزيفة. ،كان العديد من الملاحظين المحافظين قد اتفقوا مع ريغان وعارضوا نتائج الملاحظين الدوليين وظلوا مصرين على ان الانتخابات سارت وفق نمط المرشح الواحد على طريقة الدول الشيوعية. وعلى الرغم من ان ستة أحزاب شاركت في هذه الانتخابات ضد الساندينيستا إلا أنها فازت ب35 مقعدا فقط من مجموع 96 في الهيئة التشريعية في نيكاراجوا. إدارة ريغان تحايلت على قوانين الكونغرس ومررت التمويل والأسلحة ضد ثوار نيكاراجوا (الكونترا) التي هي اللفظ الأسباني لمصطلح حركة معارضة الثورة. الحركة المعارضة لثوار نيكاراغوا حصلت على الأسلحة والتدريب من الولاياتالمتحدة ووكالة الاستخبارات المركزية وخاصة فيما يخص تكنيك حرب العصابات مثل تدمير عناصر البنية التحتية وعمليات الاغتيال. في نوفمبر 1986 كانت أول ادعاءات علنية لصفقة الأسلحة مقابل الرهائن قد طفت على السطح عندما نشرت مجلة الشراع اللبنانية في 3 نوفمبر ان الولاياتالمتحدة قد باعت أسلحة إلى إيران سرا من اجل تأمين إطلاق سراح سبعة رهائن أمريكيين أسرتهم جماعات مؤيدة لإيران في لبنان.العملية المستترة كانت قد اكتشفت فقط بعد ان اسقط جسر جوي من الأسلحة على نيكاراغوا. وفي 21 نوفمبر قام عضو مجلس الأمن القومي الأمريكي اولفر نورث وسكرتيره فاون هال بتمزيق وثائق تربطهم وآخرين بالفضيحة وفي 25 نوفمبر اعترف النائب العام الأمريكي ايدوين ميس ان أرباح عملية بيع سرية إلى إيران نقلت بشكل غير قانوني إلى معادين للشيوعية وحركة مقاومة الثوار. وبعد ان تمت مواجهة الرئيس الأمريكي بقدر كبير من الضغط أعلن ريغان في 26 نوفمبر انه بدءا من الأول من ديسمبر سوف يعمل كل من وزير الخارجية الأسبق ادموند موسكي ومستشار الأمن القومي السابق برينت سكوكروفت كأعضاء في لجنة مراجعة خاصة تبحث في الفضيحة في إطار لجنة رئاسية عرفت فيما بعد باسم لجنة تاور.و حتى هذه النقطة ادعي ريغان انه لم يكن على علم بالعملية. ولكن في الأول من يناير 1986 ظهر انه كان على علم بالصفقة بعد الاطلاع على مفكرة الملاحظات اليومية الخاصة به والتي ذكر فيها «لقد وافقت على بيع قذائف TOW إلى إيران». لجنة تاور التي تضمنت نورث وبويندكستر وواينبيرجر من بين آخرين لم تحدد بشكل حاسم درجة تورط الرئيس ريغان ومع هذا فانه في 26 فبراير 1987 انبت اللجنة الرئيس ريغان لأنه لم يسيطر على فريقه للأمن القومي. في 18 نوفمبر 1987 أعلن الكونغرس الأمريكي تقريره النهائي حول القضية وجاء فيه ان ريغان مسؤول مسؤولية تامة عن الفعل الآثم الذي قام به معاونوه وان إدارته مارست التكتم والخداع وازدرت القانون وتضمن التقرير تهما متعددة في 16 مارس 1988. حيث تم اتهام نورث في تسع تهم وأدين في ثلاث منها هي الكذب على الكونغرس وتدمير وثيقة رسمية وقبول إكرامية غير قانونية.الحكم على نورث خفف في الاستئناف على أساس حقوق نورث في التعديل الخامس في القانون الأمريكي حيث أكد محاميه انه قد تم تحريف شهادته للكونجرس وانه تمت خيانته حيث قدم الشهادة وهو تحت الحصانة ثم استخدمت الشهادة ضده. بويندكستر أدين في عدة تهم جنائية منها الكذب على الكونغرس وعرقلة العدالة والتآمر وتدمير وثائق كانت متعلقة بالتحقيق.كانت إدانته قد انقلبت في الاستئناف بشكل أساسي على نفس الأسس التي حدثت مع نورث.المستشار المستقل لم يكن قادرا على المحاولة من جديد للحصول على أحكام اكثر قسوة ضد كل من نورث أو بويندكستر. كان عدد من المحللين السياسيين في ذلك الوقت قد أكدوا ان ال CIA وربما أجهزة أخرى من الحكومة الأمريكية تورطت في عمليات تهريب مخدرات لزيادة الأموال المستخدمة لتمويل الحركة المقاومة لثوار نيكاراجوا وهي فضيحة أخرى انبثقت عن فضيحة إيران كونترا جيت وتورط فيها عدد من مسؤولي وكالة الاستخبارات المركزية وسميت وقتها بفضيحة «درج ترافيك جيت»، ووقتها ثار عدد من الصحفيين الأمريكيين على عدم تورع الأجهزة الأمريكية الرسمية عن استغلال أي نوع من الجرائم في سبيل القضاء على معارضيها في أمريكا الوسطي. في 1988 ظهر تقرير من لجنة فرعية لمجلس الشيوخ الأمريكي حول قضية تهريب المخدرات أو تجارة المخدرات والإرهاب والعمليات الدولية تضمن ان عددا من الأشخاص في الحركة المقاومة لثوار نيكاراجوا (الكونترا) تورطوا في عمليات تهريب مخدرات وعمليات دعارة وتجارة جنس وان عمليات تجارة مخدرات أخرى كانت قد وفرت الدعم المادي لحركة الكونترا. وبرزت بعض التساؤلات الهامة حول ما إذا كان هناك مسؤولون أمريكيون متورطون في أمريكا الوسطي قد فشلوا في مواجهة قضية المخدرات خوفا من ان يعرضوا المجهود الحربي للخطر ضد نيكاراغوا.و في الحد الادني كانت دفاتر ملاحظات نورث قد أظهرت انه كان على علم اكثر من مرة بتورط حركة كونترا في عملية المتاجرة بالمخدرات والجنس وانه لم يقدم هذه المعلومات الهامة إلى الجهات المسؤولة وبخاصة إلى البيت الأبيض. في 27 يونيو 1986 كانت محكمة العدل الدولية قد حكمت لصالح نيكاراغوا في قضية الأنشطة العسكرية ومساندة القوات العسكرية ضدها، وهي القضية التي قدمتها حكومة نيكاراغوا ضد الولاياتالمتحدة وحكمت وقتها محكمة العدل الدولية. بتعويض لنيكاراغوا عن الأضرار الجسيمة التي تعرضت لها بسبب تمويل الولاياتالمتحدة لنشاط حربي ضد حكومتها ورفضت الولاياتالمتحدة ان تدفع التعويض وادعت ان محكمة العدل الدولية لم تكن مختصة أو كفئا لمتابعة القضية وفيما بعد استخدمت حق الفيتو ضد قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي دعا جميع الدول للإذعان للقانون الدولي. وكانت الجمعية العامة في الأممالمتحدة قد مررت القرار من اجل الضغط على الولاياتالمتحدة لدفع التعويض لنيكاراجوا. فقط السلفادور التي كانت أيضا لديها نزاعات مع نيكاراجوا وإسرائيل وحصلت على 4 مليارات دولار أمريكي في العام مساعدات من الولاياتالمتحدة قد صوتت مع الولاياتالمتحدة في حق الفيتو وعلى الرغم من هذا القرار فان الولاياتالمتحدة ظلت مصرة على عدم دفع التعويض. حزب الساندينيستا سلطته في انتخابات جديدة في فبراير عام 1990 بعد عقد من الضغوط الاقتصادية والعسكرية الأمريكية على نيكاراغوا. كانت فضيحة إيران كونترا جيت لها أهمية كبري لأنها أبرزت أمام الرأي العام الأمريكي العديد من الأسئلة والاعتراضات ومنها :هل يملك الرئيس الأمريكي سلطة غير مشروطة لإدارة السياسة الخارجية وفق رؤيته دون الحصول على موافقة الكونغرس وهل يمكن للرئيس ان يوافق على بيع أسلحة إلى دولة أجنبية دون موافقة الكونغرس؟ وما هي المعلومات التي يجب ان يقدمها الرئيس للكونجرس ومتي يجب ان يقدم هذه المعلومات.و هل يجب على الرئيس إبلاغ الكونغرس بمبادرات السياسة الخارجية؟ وما هي السلطة التي يملكها الكونغرس لمراقبة عمل الفروع التنفيذية في الإدارة الأمريكية وهل يجب ان يتم تمويل مبادرات السياسة الخارجية من قبل الكونغرس؟و من يحدد ميزانية الإنفاق بكاملها ومن ينظمها؟ وما الدور الذي تلعبه المحكمة العليا في تحديد النزاعات بين الفروع التشريعية والفروع التنفيذية؟ وبرزت وقتها أيضا في الصحف الأمريكية حالة رفض واضح لحجم الدعم الذي يمكن ان تقدمه الولاياتالمتحدة لتجهيز القوي المعارضة المسلحة في دول أخرى وهي تلك القوي التي تبحث عن استبدال الحكومة والتي لا تلقي دعما من الداخل، وأثيرت عدة أسئلة حول حق الولاياتالمتحدة في التدخل في شؤون الدول الأخرى. معظم ان لم يكن جميع تلك الأسئلة الدستورية والأخلاقية لم تتم الإجابة عليها حتى اليوم في الولاياتالمتحدة ومن ناحية أخرى بدا ان الفروع التشريعية والتنفيذية لم ترغب في العمل معا وانه لا توجد حلول قانونية. وهناك قضايا عابرة في تلك الفروع التشريعية والتنفيذية تتغير كل عدة أعوام.