مازلت أذكر صاحب بقالة في حينا القديم كان يمتنع عن بيع الدخان؛ ولكنه يبيع المضادات الحيوية بجانب علب البندول والاسبيرين.. وفي حين تفكر ألمانيا اليوم بمنع بيع كافة الأدوية المتضمنة مادة الباراسيتامول (المسكنة والخافضة للحرارة) بدون وصفة طبية، مايزال أطباؤنا يصرفون المضادات الحيوية بمستوى البنادول وحبوب الصداع.. والخطير هنا أن المضادات الحيوية (التي تعد احد أعظم الاكتشافات الطبية) يمكن أن يؤدي الإفراط في استعمالها الى ظهور سلالات من البكتريا التي تتمتع بمقاومة عالية ضدها.. فالبنسلين مثلا - احد أقدم المضادات الحيوية وأكثرها نفعا - أصبح عاجزا هذه الايام عن القضاء على 90% من الميكروبات العنقودية البسيطة.. وما يحصل هنا ان جميع الميكروبات تحتوي على ذاكرة مناعية خاصة (تدعى بلاسميدات) تجعلها "تتعلم" من التجربة كيف تقاوم المضادات التي هاجمتها سابقا.. بل وتنقل معرفتها لسلالاتها الجديدة!! والمسبب الأول لهذه المعضلة هو الاستعمال المفرط وغير الضروري للمضادات الحيوية.. فالإفراط في استعمالها يحرم الجسم من فوائدها عند الحاجة الفعلية. وفي حين يرتاح الأهل لطبيب يعطي أطفالهم مضادات تعطي نتيجة سريعة، سيتمنون اشباعه ضربا حين يحتاج إليها فعلا في سن الثلاثين فلا يستجيب لها جسده.. أما السبب الآخر فيعود الى ان معظم الناس يتوقفون عن تناول تلك المضادات فور شعورهم بالتحسن (وهذا خطأ كبير) كون الجرعات الناقصة لا تقضي على البكتيريا تماما بل تهيئها لبناء مقاومه متدرجة!! ولسبب لا أفهمه تحضى المضادات الحيوية بشعبية كبيرة في العالم الثالث بالذات.. فمن الملاحظ أن عموم الناس - بما في ذلك الجدات - يصفونها لبعضهم لأتفه الأسباب. أضف لذلك ان ضعف الرقابة في بعض الدول تشجع كثيرا من الشركات على تسويق مضادات قوية لأمراض بسيطة؛ فحسب تقرير لمنظمة الصحة العالمية توصي بعض الشركات باستعمال مضادات قويه للبثور، والإسهال، والسعال، والزكام، وكثير من الأمراض التي لا تحتاج لمضادات.. وأشارت المنظمة في تقريرها الى ان الصيادلة في بنغلادش مثلا يصفون الستربتوميسين للسعال وطفح الحفاظ، وتعطى الأم المرضع في اليمن حقنة من البنسلين حين تتقرح حلمتها، وفي الهند قد يعطى صبي صدمته "عربية كرو" مضاد التتراكسين او الامبيسلين.. أما نحن فنسارع حين يصاب احدنا بالبرد لابتلاع نصف دسته من المضادات (رغم ان المضادات لا تؤثر بطبيعتها على الفيروسات المسبب الأساسي لنزلات البرد)!! أما في الدول المتقدمة فإن نصف قرن من الاستعمال المكثف أدى لنفس المعضلة؛ ففي امريكا مثلا اكتشف ان نصف حالات الدرن اصبحت من النوع المقاوم. وفي أوروبا ثمة دلائل قوية على ان التهابات الرئة والأذن لدى الأطفال اصبحت تستعصي على المضادات المعروفة. اما في اليابان فكشف احد التقارير ان مضادا قويا وحديثا مثل الفانكوميسين تضاعفت قدرة البكتيريا على مقاومته عشرين مرة حتى الآن.. اما أكثر الأخبار طرافة في تاريخ المضادات فهو ما أشارت إليه مجلة "نيو انجلند" الطبية من ان نوبات الإسهال التي أصابت نصف القوات الامريكية في حرب الخليج كانت بسبب الإفراط في تناول المضادات. وأشارت المجلة الى ان الإسهال لا القوات العراقية كان سيهزم الجيوش الامريكية لو طالت الحرب لأكثر من ذلك!! .. مفارقة عجيبة ان تكون المضادات الحيوية - أحد أعظم الاكتشافات الطبية - سببا في عودة أمراض خطيرة كانت على وشك الاختفاء.. فبعد ان كانت أمراض مثل الدرن والدفتيريا والكوليرا والطاعون تستجيب لها بسهولة نجدها اليوم مرشحة بقوة للدخول في قائمة "أمراض ما بعد المضادات"!!