نعم أيها السادة.. قوة المسدس لا تكمن في قوة طلقاته بل في علم الطرف الآخر بأنك تملكه وقادر على إخراجه عند الضرورة.. فالقوة الحقيقية تكمن في علم الآخرين بأنك تملكها دون أن تضطر لكشف كامل أوراقك.. فقد يكون مسدسك فارغا، وقد يكون مجرد لعبة بلاستيكية - وقد لا يكون وقتها موجودا معك - ومع هذا يشكل قوة ردع لمجرد علم الطرف الآخر بأنك تملكه وقد تستخدمه ضده. ولو تأملت جيدا أسباب قوة روسيا وأمريكا (وبقية الدول النووية) لأدركت أنها تعود الى "السمعة" التي بنتها حول امتلاكها أسلحة دمار شامل دون أن تضطر فعلا لاستعمالها.. فمجرد علمنا مثلا بامتلاك اسرائيل لأسلحة نووية يمنعنا من التفكير بمهاجمتها بالأسلحة التقليدية، ومجرد علم أمريكا بامتلاك روسيا لصواريخ عابرة للقارات منعها من مواجهتها مباشرة في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، ومجرد امتلاك باكستان لمخالب نووية جعلها تفرض نوعا من التوازن العسكري مع الهند، وامتلاك كوريا الشمالية صواريخ بالستية منع أمريكا من نزع سلاحها بالقوة كما فعلت مع العراق وأفغانستان.. وما احتلال البلدين الأخيرين - والاعتداءات المستمرة على غزة ولبنان والأراضي المحتلة - إلا مثل حي على ضعف الأمة وسمعتها الهشة وعلم الآخر بأننا لا نخبئ أي مسدس (ولا حتى شفرة حلاقة) تحت مشالحنا.. فمهما تحدثنا، ومهما بررنا، تظل الحقيقة الأبرز هي أننا أمة تدفع ثمن ضعفها العسكري وجهلها النووي وتشرذمها السياسي. فالأمم تحترم بعضها البعض وتصل لمرحلة الاستقرار والاتفاق طالما تساوت قواها العسكرية والسياسية.. وفي المقابل تنشب المعارك الكبرى - لأسباب بسيطة وتافهة - حين يرتفع المستوى العسكري والاقتصادي لدولة ما لدرجة تبدو معها دول الجوار ضعيفة وسهلة نسبيا (ومثال ذلك ألمانيا في الحربين العالميتين).. فجميع الدول تدرك أن المواجهات الحربية باهظة ومكلفة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية؛ وما لم تكن المعركة سريعة وكاسحة (كما فعلت ألمانيا في بولندا وأمريكا في العراق) يدخل الطرفان حرب استنزاف طويلة (نتيجة تساوي قواهما العسكرية) بحيث ينهاران سويا كما حدث بين العراق وإيران، وكوريا الشمالية وكوريا الجنوبية.. ولو راجعت التاريخ جيدا لاكتشفت أن مجرد وجود قوة كبيرة بقرب قوة صغيرة ينتهي غالبا بغزو الأولى للثانية (وهذا ما حصل بين العراق والكويت، وروسيا ولاتفيا، والصين والتيبت). وتاريخ القارة الأوروبية يثبت أن الحملات العسكرية العظيمة تظهر كخطوة تالية لتعملق وتضخم دولة عسكرية على حساب دول محيطة بها؛ فبعد الثورة الفرنسية مثلا بلغت القوة العسكرية لفرنسا حدا أغرى نابليون باكتساح معظم القارة الأوروبية. وفي الحرب العالمية الثانية وصلت القوى العسكرية في ألمانيا حدا أغراها بنقض المعاهدات الأوروبية وتوسيع حدودها على حساب بولندا وتشيكيا.. وما يحدث في عصرنا الحاضر - ضد لبنان وفلسطين - سببه تفوق إسرائيل النوعي ووجود "عامل إغراء" ضد دول الجوار.. ولو كان العرب يملكون من القوة العسكرية والشجاعة السياسية نصف ما تملكه كوريا الشمالية لما تجرأت إسرائيل على مواصلة اعتداءاتها بين الحين والآخر.. وأنا شخصيا لا ألوم المواقف المترددة للدول العربية بقدر ما ألوم عقودا طويلة من الضعف العسكري والتخلف التقني وعدم إنشاء قوة ردع مضادة (ترهبون به عدو الله وعدوكم).. وفي حين ينادي البعض بالجهاد ضد أمريكا وإسرائيل يتناسون أن جهادا بلا سلاح وقوة عسكرية موازية يصبح بمثابة انتحار جماعي وهزيمة مؤكدة أمام الأباتشي وصواريخ توماهوك.. وما تمارسه إسرائيل ضدنا باستمرار - وآخرها قصفها الأخير لغزة - ليس أزمة طارئة، ولا اعتداءات لن تتكرر لاحقا، بل ثمن طبيعي ومتوقع لضعفنا وتهاوننا وعجزنا عن مقارعة الكبار.. .. وما يوجعني أكثر؛ أن إسرائيل ليست من الكبار أصلا!