أذكر انبهاري الأولي حين كنت في المرحلة الابتدائية حين اكتشفت أن هناك ما يقرأ غير الكتب المدرسية وواجباتها المملة في نظري. كنت لحظتها أتهجى الأخبار المصطفة في إحدى الجرائد اليومية، واكتشفت أن للكلمات معنى وأنني أفهم. بعدها التفت إلى رواية مركونة في أحد الأرفف في بيت جدي حيث كنا مجتمعين وبدأت أقرأ. اكتشفت يومها أن هناك عوالم أخرى خارج إطاري الضيق المحدود وعرفت أن عقلي ليس له حدود فيما يخص الخيال أو التفكير. نحن نتحدث عن زمن لم تهجم فيه الفضائيات بعد ، لم نتحول فيه بعد لكائنات «سمعو بصرية» إن صحت التسمية تتابع الشكل وتستمع للصوت. كانت الكتب تختبئ أحيانا في حقائب الطالبات المدرسية للتبادل مع الزميلات، وكانت غارات التفتيش المفاجئة تساوي بين المشط أو قارورة عطر أو مرايا أو كتاب أو شريط فيديو وكتاب أو رواية أو ديوان شعر، وكأن المطلوب من فتيات على أعتاب المراهقة أن يتركن شعورهن منكوشة ولا يهتممن بالنظافة والرائحة الزكية ولا يقرأن ويا ويلهن لو قرأن كتب الشعر. كانت رئيسة فرقة التفتيش تهجم في الحصص الأخيرة من اليوم لتبدأ معركة تفتيش الحقائب بدون مراعاة للخصوصية ولا احترام للطالبة وكانت تتفنن في قولها بدل من أن تقرؤوا هذه الكتب السخيفة اقرؤوا الكتب المدرسية! لو أنكم استنتجتم أن المدرسة لم يكن فيها مكتبة فأنتم مخطئون كان فيها مكتبة تستلف منها الطالبات الكتب في فترة من الفترات ثم تحولت لمكتبة شكلية للتباهي. سيدة الرعب هذه والتي رغم تخصصها في علم الاجتماع والنفس كانت قادرة على تعقيد أي إنسان وإشعاره بأنه يرتكب جناية على المجتمع لأنه فقط لا يصادف هواها. من حظي السيىء أن دخولي للجامعة صادف فترة من التضييق الادراي وسيطرة فكر معين في التعامل مع الطالبات لذلك لم يكن لدينا نحن في قسم الفتيات «نادي كتاب» أو «نشاطات ثقافية» أسوة بمن سبقونا ومن لحقونا أو لعلها كانت موجودة لكنني لم أعلم بها. في تلك الفترة كان مصدرنا لكثير من الكتب إما نسخ مصورة أو نسخ نأتي بها من الخارج في سفراتنا هنا وهناك، كانت المكتبات في لندن مثلا مكان تجمع لكثير من السعوديين في الصيف. وكان قرار منع خروج سندريلا قبل الساعة الثانية عشرة مفيدا لمن هن مثلي حيث نبحث عن قاعة دراسية فارغة وباردة نفترش أرضها لنقرأ كتابا أو نثرثر حتى يحين موعد الخروج. لماذا أزعجكم بهذه الذكريات؟ لأنني سعدت بالجو العام في معرض الكتاب، حيث رأيت شبابا وشابات في بدايات سنواتهم الجامعية كلاً منهم يجر حقيبة يملأ بها ما اشتراه من قائمة الكتب. سعدت برؤية صاحب عائلة كبيرها على مقعد متحرك وأحد أبنائه يلازمه بينما ابنته وزوجته يحملان قائمة الكتب ويدرسان خريطة المعرض بحثا عن دور النشر المطلوبة. حتى في جناح الأطفال لم ينشغل الناس فيه بالكتب التعليمية فقط بل كان للروايات المترجمة والقصص الهادفة وكتب تعلم اللغات دور ونصيب. من الطبيعي أن أصاب بحمى السعادة وأنا أتجول براحة لأتصفح الكتب وجميل أن أرى الناس على اختلاف أشكالهم وأعمارهم وتوجهاتهم الفكرية يشترون نفس الكتب بدون أن يتهم أحدهم الآخر بالانحراف الفكري لليمين أو اليسار. خاصة وأن الكثير منكم عاش زمن الترحال لحضور معارض كتاب في دول مجاورة أو مدن بعيدة. جميل أن نقلب الصفحة ونمضي للأمام بعيدا عن المزايدة على أمور فكرية خلافية والمعارك المفتعلة التي تنجح في شيء واحد فقط هو تشتيت الانتباه وتضييع الوقت. جميل أن يجمعنا اهتمامنا بالكتب. هل نجح المعرض؟ يكفي أن تنظر لطابور الزوار والزائرات لتعرف.