الإفرازات للمتغيرات التي صاحبت مجتمعنا كثيرة، لعل من الملفت للنظر هو الحضور الإعلامي الكبير للقضايا المحلية والنقاشات المصاحبة لها. وأي نقاش هو دلالة على تحريك الراكد وظهور وجهات النظر المختلفة مؤشر جيد على أن هناك تمثيلا فكريا لجميع الأطياف المختلفة. بغض النظر عن نوعية هذه النقاشات وطبيعتها الهادئة أو المتعاركة، وكل شيء يتعارك في دواخلنا بدءا من الأفكار ونهاية بخلايا دمنا الحمراء التي تتقاذف مسرعة في شرايننا وأوردتنا. الاختلاف الفكري دلالة على صحة المجتمع وصحة الأفكار المطروحة والخروج من القولبة، فأنت حين تطرح قضية تهمك كفرد أو كمجتمع للنقاش يفترض أنك تسعى لتستمع لوجهات النظر المختلفة التي قد توجهك لطريق غفلت عنه أو تريك جانبنا أغفلته أو أمرا تجاهلته، من الطبيعي أنك تبتعد عن القولبة في الطرح الفكري، فلو أردت أن تسمع وجهة نظر تناسب هواك فمن الأفضل أن تنظر لنفسك في المرآة وتتحدث معها وليس بالضرورة أن تتواصل مع الآخرين. أنت كفرد في مجتمع فيه كثيرون ممن يشبهونك وممن يختلفون عنك لكن في النهاية يجمعكم انتماء ديني وعرقي واحد، وبالتالي ليس بالضرورة أن من يختلف عنك هو عدوك وليس بالضرورة أن من لايوافقك في رأيك هو شخص لا يحبك أو لا يريد لك الخير. كل ما تحتاجه هو أن تستمع بإنصات لما يقول وتحاول أن تفهم فكرته قبل أن تنتفض غاضبا متهمه بالظلامية أو الانحلال وهي تهمتان متكررتان في الخطاب الفكري المحلي. وهذا يقودنا للحديث عن التيارين الفكريين المتصارعين على الساحة المحلية، تيار محافظ يتردد قليلا وتيار يشجع التغيير. الأول يوصف بأنه انهزامي ظلامي والثاني يوصف بأنه تغريبي انحلالي، وهناك أوصاف أخرى تطفو على السطح هنا وهناك لزمات معينة تتنشر مثل زوار السفارات، مؤيدي القاعدة، دعاة التغريب، مغذي الإرهاب.. و معارك مفتعلة تأخذنا لطريق جانبي بعيدا عن الأمور الأساسية التي تهمنا كمجتمع يسعى للنمو و التطور مثل مشاريع تطوير التعليم، نشر ثقافة الوعي الصحي، التوظيف، تطوير برامج التكافل الاجتماعي، تطوير مفاهيم الحقوق، التضامن ضد العنف الأسري، إدماج المعاقين وتسهيل أمورهم، تيسير سبل الرعاية الصحية وغيرها. ففي كل حوار أو نقاش يأتي هذان الطرفان ليتبادلا التهم وننشغل نحن بهم وبأمور خلافهم الجانبية عن موضوعاتنا الأساسية، رغم أن لكل منهم أجندة تطوير تهم المجتمع وتخدمه فيما لو دمجت بعيدا عن معارك صبيانية.