أوائل التسعينات الميلادية وعلى إثر قيام ثلة من النساء بقيادة السيارات في مدينة الرياض ، وقد تزامن ذلك الحدث مع أحداث أزمة الخليج وقدوم القوات الأمريكية للمنطقة ، تلك الأحداث كلها تعد مفصلا تاريخيا من مفاصل تكوِّن الوعي الفكري لدى قطاع عريض في مجتمعنا المحلي ، فمنذ ذلك التاريخ بدأ تسرب المصطلحات الفكرية إلى الثقافة المحلية دون وعي حقيقي بماهية تلك المصطلحات ؛ مع ما تحمله هذه المصطلحات من دلالات فكرية يتحدد من خلالها الموقف ممن اصطلح على وصفه بها ، ولعل القصة التي تروى عن ثلة من كبار السن في مدينة بريدة تختصر هذا الوعي الجديد الذي تسرب إلى ثقافة العوام ، حيث يحكى أنه كانت مجموعة من كبار السن ( الشِّيَبان ) استمعوا إلى خطبة حماسية من أحد الخطباء يتحدث عن العلمانيين وخطورتهم على المجتمع ، وسعيهم الحثيث لإفساد المرأة ومحاربة الدين ، وبعد خروج أولئك ( الشِّيَبان) من صلاة الجمعة اجتمعوا كما هي عادتهم كل جمعة في مجلس أحدهم يتناولون تمرات السكري مع رشفات رشيقة من قهوة البن المطعمة بالزعفران ، و يتبادلون أطراف الحديث في كل شيء ابتداء من أحوال بقرة أبي صالح ، وانتهاء باحتلال العراق للكويت ، وكما هي العادة لا يخلو حديثهم من التعليق على خطبة الجمعة التي سمعوها آنفا ؛ وإذ قد سمعوا ذلك اليوم حديثا عن ( العلمانيين ) فقد كان الحديث عنهم يستقطب اهتمامهم في ذلك المجلس ؛ فقد انبرى أحدهم يخاطب رفاقه – بلهجته العامية الجميلة - بشيء من الاستغراب : (( ها العُمَانيين اللي تكلم عنهم الإمام اليوم ، وقال عنهم إنهم يفسدون في بلدنا ، ليش ما يْرَحْلونهم إلى بلدهم عُمَان؟ ) ، وهنا شاركه الحضور الدهشة مبدين موافقتهم له على هذا الحل العبقري السهل لمشكلة هؤلاء ( العُمَانيين) الذين يعيثون في بلدنا فسادا كما نبه على ذلك خطيب الجمعة ، هذا الخلط بين ( العَلمَانيين ) و( العُمانيين) في هذه القصة إشارة رمزية إلى أمرين ؛ أحدهما انخراط العامة- منذ ذلك التاريخ - في الصراع الفكري في مجتمعنا المحلي نتيجة تجييشهم من قبل بعض الخطباء والدعاة في صراعهم مع المناوئين لهم من الليبراليين دون وعي حقيقي بماهية تلك الخصومة وحقيقتها ، وخطورتها ، مما ساهم في تعويق أي محاولة جادة ومتزنة ومنضبطة في تحديث المجتمع دون المساس بثوابته الدينية والوطنية ، والأمر الثاني هشاشة الوعي الفكري لدى قطاع كبير ممن يتعامل مع تلك المصطلحات الجديدة ، وإذا تجاوزنا أولئك ( الشِّيَبان) نظرا لطبيعة تكوينهم الفكري ، نجد أن كثيرين ممن يتحدثون عن الليبرالية والليبراليين يجهلون ماهية الليبرالية الحقيقية حتى بعضا ممن يتبنَّاها يجهلها ؛ فأحدهم خرج في قناة الجزيرة متحدثا بصفته يمثل التيار الليبرالي السعودي وقال : إنه ليبرالي وفق الكتاب والسنة ( هكذا !!) ليس حديثنا في هذا المقال عن ماهية ( الليبرالية ) ؛ فللحديث عنها مقال مستقل إن شاء الله ، بل الذي يعنينا هنا توصيف موقف التيارات الفكرية في مجتمعنا من ( الخلاف) ، وإذا كان الخلاف الفكري حقيقة قدرية لا ينفك عنها مجتمع من المجتمعات ؛ فحيث تكون الحضارة وانتشار التعليم يكون الاختلاف، وتنوع الأفكار والمفاهيم ، وأقل المجتمعات اختلافا هي مجتمعات البادية والقرية حيث محدودية الثقافة والعلم ، ومن هنا فمن الطبعي – شئنا أم أبينا ، كرهنا أم أحببنا - أن يكون مجتمعنا المحلي يموج بالتيارات الفكرية ، وإذ يوجد في مجتمعنا تيارات وأفكار مختلفة فمن الطبعي أيضا أن يقوم بينها تنافس وصراع فكري ، وهنا قد يتساءل أحدكم إذا كان ذلك كله طبعيًا ، إذن أين الخلل ؟ الخلل هو تحول السجال الفكري وأدبيات الحوار بين التيارات الفكرية إلى معارك شرسة تستخدم فيها كل الوسائل لإلغاء الخصم وشطبه من الخارطة الفكرية ، ولعل أبرز وسيلة تستخدم في تلك المعارك هي قولبة الخصم ، وأقصد بالقولبة هنا وضع الخصم في قالَب – مثل قوالب صناعة البُلُك - متى ما ذكر التيار استحضر السامع أوصاف ذلك القالب ، فالإسلاميون صنعوا لليبرالي قالبا ؛ فهو في قالبهم ( إنسان منحط الأخلاق ، متحلل من الدين ، شهواني ، يسعى لإفساد المرأة ، وانحلال المجتمع ، وبث الشبهات ، ويتصل بالسفارات الأجنبية للاستعانة بها على إفساد المجتمع ) ، والليبراليون صنعوا للإسلامي قالبا ؛ فهو في قالبهم ( إسلاموي يتخذ الدين ستارا لتحقيق أهدافه السياسية ، إرهابي يدافع عن العنف بأقواله ، ضيق الأفق يضيق بالخلاف والرأي الآخر، متعصب ، متخلف يعيش في القرون الوسطى ، يتكسب بالدين ، جاهل بالحضارة والفكر ، يضيق الخناق على المرأة ) ، هذه القولبة بين الطرفين ساهمت في أمرين ؛ أحدهما الحساسية المفرطة من النقد لدى التيارين وهذا ما يفسر ضيقهما من بعض حلقات ( طاش ) التي تسلط الضوء على التيارين بصورة مضخمة كاريكاتورية كما هي طريقة الفن ؛ وذلك لأن تلك الحلقات – برأيهم - ترسخ تلك القولبة في أذهان المشاهدين ، والأمر الآخر الذي ساهمت فيه تلك القولبة هو غياب النقد البنَّاء لأطروحات الطرفين الفكرية ؛ النقد المتصف بالموضوعية والرصانة والعلمية ، مما أشاع جوا فكريا متوترا وضحالة ثقافية مخيفة وغيابا للتقاليد المعرفية الصارمة للنقد والبحث والإبداع ، وكان ضحية ذلك كله الأجيال الشابة المثقفة المتطلعة للعلم والمعرفة فخسرهم الفكر والمجتمع ، تلك الأجيال الشابة التي دُفِعت للانخراط في الصراع فتحولت إلى جنود تحارب في تلك المعارك المحتدمة بين الطرفين متبنية بسذاجة بالغة مقولات الطرفين عن بعضهما دون وعي ، وكان من المفترض أن يتاح لتلك الأجيال الصاعدة جوا علميا يتصف بالجدية والطرح العميق البناء القائم على تقاليد النقد العلمي الموضوعي مما يؤهل بعضهم ليكون يوما من الأيام عالما شرعيا واعيا بمتطلبات العصر ، أو مفكرا عميق الرؤية غزير الإنتاج يفاخر بهم المجتمع ........ والله المستعان د . سليمان الضحيان كاتب وأكاديمي في جامعة القصيم _______________________ تعليقات الزوار منصور إبراهيم يبدو لي أن السبب يعود إلى التورم والادعاء والجهل لدى معظم من يمثلون أو يتحدثون باسم هاتين الشريحيتين أو التيارين كما يحب الضحيان أن يعبر.. هناك مستوى عال من التضخم والكبر في معرفة الذات أولاً وفي معرفة الآخر، والصدق في وصف الآخر كما هو ومعرفته كما هو وكما يقدم نفسه لاكما تشاء أهواؤنا ومخيلاتنا أن يكون عليه. أذكر أنني حين بدأت بالعمل في مؤسسة إعلامية توقعت أن يكون معظم العاملين بها من الوالغين في الشهوات، الذين يتربصون حتى يضمنوا خلوا لمكاتب في المؤسسة الساعات المتأخرة من الليل ليعبوا مايشاؤون من الشراب، تفاجأت أن 95% منهم حين تفتقدهم تجدهم يقضون الصلاة التي فاتتهم بين ممرات المكاتب. حين فكرت باستخراج رخصة قيادة السيارة كان الذي فزع لي وسعى بمعاملتي لتخليصها في ساعتين أحد المتعاطفين مع القاعدة، وكان يعرف أنني لاأتردد في الإفصاح عن رأيي النقدي في معظم الثوابت الإسلامية، ولكنه كان كريما وشهما ونبيلاً وقال كلمة معبرة(إيه..إنك لاتهدي من احببت). المصيبة أن البعض عاش معظم حياته إما متدينا وإما بين أوساط توصف بالليبرالية وبعد التحول حين يكتب عنهم يبدو وكأنه يكتب عن اشخاص من جزر الواق واق. شكرا ياسليمان ولعاجل على هذه الهدية ابو فهد العريمضي يازين كتاباتك يابو علي بريداوي صميم الفكر الحر ينتج الرؤى الإيجابية في كل مكان بالدنيا.. هل لدينا بيئة فكر حر في الزمن الذي تتكلم فيه ؟؟الجواب لا..!! أذن لماذا الاتهام ؟؟ اعتقد أنهم مجبرون على ذلك النمط من التفكير دمت ايها الكاتب المبدع فيلسوف الدكتور سليمان الضحيان السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. الليبرالية مصطلح عادي جدا ضخمه من لايعرف سوى كلمة التدين كنبراس حياتي للإنسان .. المهم أن لايترك الإنسان ثوابته ولايخرج عن طوع العلماء.. نحتاج الكثير ليفهموا ذلك لكن الأمل بالله ثم بكم ختاما قبلة لصحيفة(عاجل) فقد اثبتت قوتها وننتظر منها الكثير والكثير منى المحمد يادكتور تعال شف حال العنصر النسائي يعتبروننا اطفال يحسبون خطواتنا وكأننا نعيش بلاعقول او وازع بل كأن الدين لهم.. ارجوك ارجوك ثم ارجوك اكتب عن معاناتنا نحن مظلومات ..لماذا نظرات الشك تلاحقنا بينما معظم الجرائم سببها الرجال؟؟ دمت بود ابو فارس لايمكن ان تنتصر المجتمعات دون اللجوء الى ممارسة الحوار الفكري الحر بعيدا عن التمسك بعادات وقيم ليس لها من الدين شيئا بل تم وضعها كتشريع بالقوة وغسل المخ احيي الكاتب واحيي الصحيفة التي انطلقت فعلا بقوة صالح الراضي كنت اتمنى من الدكتور أن لايقسو وهو يستصغر من الشيبان اللي قاعدين يشربون قهوة فهذا هو ادراكهم.. ناصر الرشيدي- الرياض كلام منطقي وسليم الروح الجميلة من أروع ما قرأت من مقالات عبد العزيز الحربي حقيقة المقال يحمل توصيفا رائعا جدا لظاهرة الصراع بين الإسلاميين والليبراليين ، وكنت أتمنى من الكاتب القدير لو تحديث عن ( الليبرالية ) فهو مصطلح غامض جدا وقد اشتهر هذه الأيام ، اكرر شكري العميق لهذا المقال العميق عبد الرحمن الخميس الشكر أولا عاجل على استقطابها للكاتب القدير د سليمان ثانيا : أحسن الدكتور سليمان التوصيف للواقع لكنه لم يذكر العلاج لهذا الواقع المتدني لثقافتنا وتياراتنا الفكرية ، وكنت أود لو تطرق الكاتب القدير لطرح حل لمثل هذه المشكلة ، وفي اعتقاي أن المشكلة في المقام الأول تعليمية لأن تعليمنا يخرج أجيالا ضحلة لا تفقه شيئا حقيقيا في الثقافة والحوار والنقد ، ولهذا آمل من الكاتب القدير وكتاب (عاجل ) الفضلاء أن يتحدثوا عن واقع التعليم ويطرحوا رأيهم غي إصلاحه والحديث عن مناهجه تقبوا تحياتي سامي مقال رائع.. وأتمنى ان لاتختزل ثقافة مجتمع بريدة من بدايات التسعينات فالكاتب كأنة يوثق ان ثقافة المجتمع البريداوي حديثة جداً مع ان الكثير من مكتبات بريدة تعج بالكتب عن العلمانية قبل حادثة خروج بعض النساء في الرياض فارس الرس القولبة مصطلح جاء به الكاتب بشكل ساخر لكنه يحما اعماق فكرة وجرأة غير عادية .. نعم الى متى ذلك الوهم الي يخيم علينا في مجال الفكر والتنوير؟؟ شكرا لك ايها المبدع اعاهدك ان لا اترك لك مقالا high_dreams22 أشكرك د.سليمان على طرح مثل هذه المواضيع التي تعمق التفكير في كثير مما يدور حولنا..... وتساءلت لماذا أسميتها معركة وكأنك تصدر حكما بانهزام او انتصار احدهما على الاخر وليس هذا ما نصبو اليه......بقدر ما نصبو الى صلحهما ومزج المصطلحين في قالب واحد بشرط تحقيق عدم الازدواجية وتعارض احدهما على حساب الاخر بمعنى ان نخلق مفهوم ليبرالي بمنظور اسلامي بحت يحيا داخل بوتقة الأيمان....... باعتقادي ان المشكلة تكمن في مصطلح الليبرالية ذاته فالكثير من الأشخاص لديه فوبيا من تلك المصطلحات الغربية خصوصا ان كلمة ليبرالية اشتقت من ليبر liber وهي كلمة لاتينية تعني الحر .....وهذا يدخلنا في إشكالية التحيز للأفكار الغربية مما يدعنا ان نقولب الليبرالية في قالب الإلحاد والانحلال بدون ان نبحث في أعماق المفهوم..... ايضا تعدد التيارات الفكرية في التي جسدت الليبرالية في داخلنا بدون لن نشعر........ كل ما نحتاجه فقط هو خلق لغة جوار هادفة التي مازلنا لانجيدها ونجهل ابجدياتها ابوهشام اليحيوي أعتقد أن زج العوام في مصطلحات علمية لحشد التأييد كان العامل الرئيس في التسطيح الذي نسمعه الآن . المشكلة ليست في التلقي بل في عدم وجود أرضية صالحة لفهم المطروح . الليبرالية ليست كتاباً منزلاً بل هي آلية لممارسة متوافقة مع بيئة مجتمع ما ... لامتصادمة معه . لنصل يجب أن نصنع مجتمعاً قارئاً يملك أدوات الفرز والنقاش والبحث . لكن وجود مجتمع يعتمد على الكاسيت أو ثقافة السماع الكسوله لاتنتج سوى ثقافة هشة قابلة للتحشيد والتوجيه كيفما أريد لها.. عمار شكرا د. سليمان..أعتقد ان هذا الطرح فيه تسطيح وتبسيط كبير لقضية مهمة مرت ولازالت جوانب كثيرة منها خاصةأنك أكاديمي كان فترة طويلة من أنصارذاك التيار ...نحتاج لكتابة أعمق وأوضح بحكم معايشتك هذه الفترة