ان عدم وجود مدونة لأحكام الأسرة والتأخر في قيام المحاكم المتخصصة للأحوال الشخصية أيضاً سببان رئيسيان لما تتعرض له المرأة من إساءات وإهدار حقوق وظلم كما تقدم في المقال السابق الإشارة إلى أن أصل هذا الموضوع كان محاضرة ألقاها فضيلة رئيس محكمة الجبيل العامة الشيخ عبدالله البهلال في جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن قبل مدة، وكان لها صداها الطيب ولقيت تفاعلاً تستحقه من الحاضرات ومن وسائل الإعلام ومن المهتمين. واستكمالاً لما سبق فقد حفلت المادة العلمية للمحاضرة بالكثير من الفوائد من أبرزها: أولاً: أورد فضيلته في المقدمة عدة أشكال للعنف ضد المرأة مما يمارس في المجتمع السعودي ومن ذلك: (النظرة الدونية للمرأة -حرمان البنات من التعليم -الزواج غير المتكافئ في العمر -الحرمان من الميراث -الزواج المبكر (أي زواج القاصرات)-التهديد بالطلاق -تفضيل الذكور على الإناث -هجر الزوجة -ضرب المرأة -حرمان الزوجة من زيارة الأهل -حرمان المطلقة من رؤية أولادها-عدم السماح للمرأة بمزاولة الأنشطة الثقافية أو الاجتماعية). ثانياً: أشار فضيلته تحت عنوان (الاتجار بالنساء وبأسماء النساء) إلى صور عديدة وبغيضة مما يمارس في المجتمع ضد المرأة، وشبّه المرأة في هذه الصور بأنها أصبحت سلعة تباع وتشترى، وأكد فضيلته أن السلعة وإن كانت في الأصل تطلق على جمادات مسخّرة لمنفعة الإنسان، إلا أنه متى ما وجد إنسان ٌ مكبّل الإرادة من قبل الأوصياء عليه، ويدفعونه للتصرف ضد إرادته وضد مشاعره وضد ما يراه هو محققاً لمصلحته مع كمال أهليته، فإنه بلا شك أصبح عبارة عن سلعة وأن من مارس هذا العمل ضده لم يحرمه فقط من إنسانيته، بل قام بالمتاجرة به أيضاً. ثم عرّف فضيلته الاتجار بالنساء بأنه:(استضعاف المرأة وتسخيرها من قبل ذويها ومعاملتها على افتراض فقدانها للأهلية بحيث يتم إجبارها على التصرف ضد إرادتها وضد مشاعرها وضد ما تراه هي محققاً لمصلحتها.. بحيث تبدو وكأنها سلعة يتربح ذووها من ورائها.. من خلال نقل السلطة والولاية عليها لآخر.. أو التربح من وراء استغلال اسمها دون كيانها بأكمله ؛ ودون منفعة حقيقية تعود عليها). ومن الصور التي أوردها فضيلته لهذا السلوك: دفعها للزواج ممن لا توافق هي عليه.. تحقيقاً لمصلحة خاصة بذويها. دفعها للاقتراض من البنوك باسمها، واستيلاء الرجل غالباً على المال المقترض ثم تعرضها بعد ذلك لمساءلة البنك لها بالسداد. استغلال اسمها إن كانت غير موظفة حكومية في الحصول على تراخيص معينة لأعمال تجارية، يَستأثر من استغلها بالحصول على المنفعة والربح من دونها. دفعها للعمل والاستيلاء على ثمرة جهدها. (متاجرة أدت لاستغلال اقتصادي) استغلال الزوج غير السعودي لاسم زوجته السعودية ووضعها القانوني كمواطنة لها امتيازات ينص عليها القانون لتحقيق منفعة مالية خاصة به دون رضاها. ولا يخفى أن كل ذلك.. ينطبق عليه مفهوم الاتجار بالنساء ويؤدي في ذات الوقت إلى الاستغلال الاقتصادي للمرأة ؛ الذي يمنح ذويها على غير وجه حق تحقيق منفعة من ورائها، وفي ذات الوقت يلحق بها أضرارا ووخسائر ما كان لها أن تحدث ؛ ويفوت عليها أرباحا ما كان لها أن تفوت عليها.. لو راعى ذووها أهليتها وحقوقها المالية والاقتصادية التي كفلها لها الإسلام. ثالثاً: عن أسباب هذه الظاهرة أورد فضيلته مجموعة أسباب كان خلاصتها: ضعف الوازع الديني: وهنا أشار إلى أنه في الإسلام، تأتي الأخلاق في محل الغاية الكبرى لبعثة رسول الله، حيث يوضح صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ".. والأخلاق هنا تعني: السلوك الظاهر الذي يصدر عن الإنسان ؛ والذي يجب أن يكون سلوكا أخلاقيا..وذاك مشروط بتكون القيم الأخلاقية الإسلامية لدى الإنسان ؛ فالأخلاق [ السلوك ] بلغة الرياضيات دالة في قيم الإنسان.. فمتى وجدت القيم الأخلاقية إدراكا لجوهرها بالعقل، وانفعالا بمضونها بالوجدان.. تجلت تلك القيمة في عالم الواقع على صورة سلوك أخلاقي يعبر عن مضمون هذه القيمة. والقيم الأخلاقية في الإسلام تهدف ابتداءً لتنظيم علاقة الإنسان بالله عز وجل.. فمتى انتظمت علاقة الإنسان بالله ممثلة في تحقق القيمة الأخلاقية الكبرى لدى الإنسان (ألا وهي قيمة التقوى) كان ذلك بمثابة الوازع الديني والضمانة الكبرى لانتظام علاقته الحقوقية بالناس وفق ما تقتضيه باقي منظومة القيم الأخلاقية. فمن يتقِ الله سبحانه على وجه الحقيقة.. فمن المؤكد تجلي قيم العدل، والإنصاف، والصدق والأمانة والوزن بالقسطاس المستقيم ماديا كان الوزن أو معنويا وتجنب الجور والظلم.. الخ.. في سلوكياته، وهنا يكمن جوهر رعاية وحماية الحقوق للمرأة أو لغير المرأة، وإن كان غير ذلك فهذا ما نعنيه بضعف الوازع الديني لدى أولئك الذين يحترفون الافتئات على الحقوق. ومن الجدير بالذكر، في هذا السياق أن الإسلام لم يكتفِ بهذا الوازع الديني كحماية للحقوق من عبث العابثين، بل شرع الله سبحانه الحدود والتعازير، وكانت ولايات القضاء والحسبة والمظالم، أدوات وضمانات مادية لزجر أصحاب الأنفس الخسيسات التي لا تنزجر عن انتهاك الحقوق بفعل الوازع الديني. ا.ه. الفهم الخاطئ للمفاهيم الدينية.. كأن يسيء الزوج مثلا فهم معنى القوامة، ويسيء الولي الشرعي فهم معنى الولاية. ضعف شخصية المرأة المشجعة للزوج للافتيات على حقوقها المالية. العادات والتقاليد وأن شريحة تشكل نسبة لا بأس بها في المجتمع السعودي ترى أن على المرأة أن تتبع زوجها في الخطأ والصواب، وأن حضن زوجها هو البيت الأخير.. علاوة على إجبار الأهل للمرأة المعتدى عليها في الحقوق المعنوية من قبل الزوج على العودة إليه.. مما يشجعه أكثر للعدوان على حقوقها الاقتصادية. وأشار فضيلته إلى أنه قد أكدت دراسة متخصصة أن عنف الرجل ضد المرأة او إساءته إليها يكون بقدر ما يسمح به المجتمع وبقدر ما تسمح به الثقافة بان يعتدي على المرأة حيث إن مكانة الرجل والمرأة تختلف من مجتمع لآخر. العوامل القانونية: وهنا أكد فضيلته على أنه برغم تطبيق المملكة بفضل الله لشرع الله في هذه المجالات إلا أن ثمة مآخذ على آليات نظام الحقوق لدينا تجعل المرأة ضحية للاستغلال الاقتصادي نجملها في نقطتين: ضعف التأهيل العام لدى الخبير في المؤسسة القضائية. ضعف الجهات التنفيذية في تنفيذ الأحكام القضائية المتعلقة بحقوق المرأة. ومن صوره: الحقوق المدنية وإدارة الأحوال المدنية. ويمكن أن أضيف بأن عدم وجود مدونة لأحكام الأسرة والتأخر في قيام المحاكم المتخصصة للأحوال الشخصية أيضاً سببان رئيسيان لما تتعرض له المرأة من إساءات وإهدار حقوق وظلم. كان هذا خلاصة ما ورد في المحاضرة القيّمة لفضيلته، وإن كان لا يمكنني استقصاء كل ما تضمنته المحاضرة من فوائد من خلال زاوية مقال صحفي، إلا أني أحببت التنويه على بعض مضامينها راجياً أن يكون لها أثر ومساهمة في معالجة هذه المشكلة، إن كان لدينا من يرصد مثل هذه المشاركات ويهتم بالدراسات ويسعى لحل المشكلات ويملك الإرادة والقدرة على ذلك، وهو ما أرجو ألا يخلو وطننا منه. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش الكريم سبحانه. * القاضي السابق في ديوان المظالم والمحامي حالياً