الإنسان اليوم لم يعد إنسان الأمس الذي ينتظر ما تجود به عليه مؤسسات التنميط وحركات الأدلجة.. أصبح حراً في اختياره، قادراً على القول وعلى السمع وعلى الرؤية دون وصاية من أحد، إلا من تغلغلت فيه الأدلجة وبلغت منه النخاع، فلا يستطيع الانفكاك عنها بحال الإنسان النمطي، أو الامتثالي الموغل في الامتثالية، إنسان فاقد للمعنى، ولذلك فهو مجرد كائن، مجرد ظاهرة حية، ظاهرة لم يتحقق فيها المعنى المتجاوز الذي يكوّن هوية الإنسان.. الإنسان في سياق التنميط إنسان جامع لأكثر من هوية، ولكنه بمقدار ما يتضمن منها - كماً وكيفاً - يفقد من هويته الأساس، خاصة إذا تعامل معها كدوائر مشرّعة - ومبررة - للاتصال والانفصال. فقدان المشروعية الإنسانية يتم عندما يتقدم سؤال الهوية - أية هوية - على سؤال الإنسان، أي على حساب الإنسان.. عندما يبدأ التنميط بإيديولوجيا الهوية ينتهي الإنسان الفرد المحقق للمعنى الإنساني، ومن ثم ينتهي الإنسان.. الولاء الأول - وربما الأخير أيضاً - يصبح للنمط، للايديولوجيا المنمّطة كحراك مصلحي، ولتمظهراتها الانفصالية عن الإنسان. ماذا يبقى بعد ذلك؟!.. لا يبقى إلا فتات من فتات، واستثناءات عابرة، يجود بها الايديولوجي المنمط، لا لذات المعنى الإنساني، وإنما لمنح النمط - الما وراء إنساني - مشروعية من خلال الإنساني. يصبح (الرفق بالإنسان) صدقة عابرة تجود بها الهويات المنمطة، بعد سحق الإنسان وذبحه وسلخه، كما هو الحال في (جمعيات الرفق بالحيوان).. استثناء عابر لا أكثر، يرضي يقظة الضمائر التي يستفزها ضحايا التنميط، لتنام ملء عينيها هانئة بعد ذلك. المجتمعات المحافظة - والمنتجة للأصولية بالضرورة - مجتمعات نمطية، يشكل التنميط جوهر حراكها المعلن وغير المعلن، من حيث كونها ترتكز على وحدة القيم الصادرة عن وحدة الرؤية والمرجعية.. هي مجتمعات تقوم على وحدة الهوية وصرامتها التي تقيم تمايزاً حاداً بين الداخل والخارج، الداخل المنمط، والخارج اللامنمط، أو المستعصي على التنميط.. المنمط هو الكامل الهوية، وما كان خارج هذا التنميط فحظه من الهوية بمقدار حظه من التنميط.. لهذا تأخذ تهم التخوين والعمالة للآخر حظاً وافراً من مجمل خطاب الهوية الصارمة التي تعمل على التنميط. الفرادة والمغايرة وكل مفردات الخروج الإيجابي على النمط ليست خياراً إنسانياً في سياق الوعي المنمط وما يتقاطع معه، فضلاً عن أن تكون تميزاً للمتفرد والمغاير.. إنها تهم في العموم، وسلوكيات غير مرحب بها، وتحتاج لتبرير عند تعينها في أي أحد.. لماذا أنت مختلف؟، هو السؤال في الحالة الاجتماعية الطاردة للفرادة والمغايرة، ولا يمكن أن يرد السؤال بالعكس: لماذا أنت غير مختلف وغير مغاير وغير متفرد؟.. أسئلة لا تتردد في مجتمعات التقليد والمحافظة التي تقوم هويتها على التنميط، مع أن الفرادة والمغايرة من صميم هوية الإنسان من حيث هو إنسان. وعندما تأتي الحداثة لتفك إسار المنمط من تصوراته النمطية، ولتفتح له أفق الفرادة والمغايرة، لابد أن يقابلها بارتياب وحذر، بل بصدام وصراع.. وبينما يتصدى التقليدي المنمط للحداثة كوعي، فإنه يقبل المنجز المادي للحداثة المتمثل في التقنية المعاصرة.. يتقبلها، لأنه لا يستطيع الاستغناء - مع دعوى الزهد المعلنة في كل مناسبة - عن رفاهيتها المادية من جهة، ولأنه يرى أنها تخدم اجرائيته التنميطية من جهة أخرى.. إنه يخضع للصيرورة التاريخية، ليصبح معاصراً في المنجز المادي، بينما يرفض الوعي الذي أنتج هذه المعاصرة!. لكن، لا تسير الأمور على ما يريده - ويخطط له - التقليدي المنمط تماماً.. التقنيات التي يوظفها لتفعيل أكبر قدر من التنميط لا تعمل كما يريد لها موظفها فحسب، ولكنها تعمل وفق آلياتها الخاصة.. تصبح التقنية المعاصرة أداة تنميط من جهة، ولكنها أداة تجاوز وتنوع وتعدد واختلاف من جهات أخرى كثيرة، لا توازي مستوى التنميط لدى التقليدي.. إنها آليات مهما حاولنا التحكم بها، ومهما بلغت مهارتنا في ذلك، إلا انها تبقى عصية علينا، لأنها ابنة عصرها، عصر المغايرة والاختلاف والتنوع، وهي أوفى له منها لنا. عندما بدأت الطباعة (كتب، ثم صحف) كانت إحدى آليات التنميط، بوصفها تطرح رؤية واحدة عبر وسيلة واسعة الانتشار.. لكنها كانت أداة تنوع وتعدد، وتقريب للمختلف النائي، وللمسكوت عنه، بدرجة تتجاوز بعدها التنميطي بمراحل.. وكان المذياع والتلفاز والكاسيت المسموع والمرئي، كلها تؤدي الدور نفسه.. قد يستغل التقليدي وسيلة دون أخرى لفرط التنميط، وينجح في ذلك، لكن نجاحه يبقى في إطار البعد الحيوي لهذه الوسيلة.. وبما ان الوسائل متغيرة، وكل جديد منها أكثر نجاعة من سابقه، فإن أداة التنوع هي الأسبق إلى الحضور، ليرى المجتمع العالم من خلالها، ومن ثم يستعصي عليه الاستغناء عنها. لقد استطاع التقليدي المنمط (بالفتح والكسر) أن يوظف التقنية المعاصرة لصالح التنميط، من شريط وكتيب وكتاب ومطوي وبرنامج إذاعي وتلفزيوني، يوم أن كان ذلك يتم في حدود الرسمي وشبه الرسمي، يوم أن كانت الرقابة والحسبة تفلح في الحجر والمنع.. أما الآن، وبعد الفتوحات الاتصالية - خاصة القنوات الفضائية والانترنت - فقد أصبح من المتعذر - بل المستحيل - التحكم بما يرى الإنسان ويشاهده.. ما كان خاصاً ومراقباً ومكلفاً في انتاجه أصبح مباحاً في متناول الجميع من حيث الاستهلاك، ومن حيث الإنتاج أيضاً. أصبح المجتمع الإنساني كافة - بما فيه المجتمعات التقليدية المنمطة - أمام تنوع وتعدد غير مسبوق من حيث الكثرة، وغير مسبوق - أيضاً - من حيث عدم القدرة على التحكم فيه.. وهذا بلاشك أثار هلع التقليدي، وبعث أشجان مجتمعات الهوية الصارمة والخصوصية الحالمة.. القدرة على التنميط وبث روح الامتثال واجهتها اعاصير العولمة بأبعادها المتعددة، وخاصة الإعلامي منها.. لقد أصبح التقليدي يقلب كفيه حيرة وغضباً أمام هذا العالم الجديد الذي منح الإنسان الاختيار، ورفع عنه نير الوصاية. الإنسان اليوم لم يعد إنسان الأمس الذي ينتظر ما تجود به عليه مؤسسات التنميط وحركات الأدلجة.. أصبح حراً في اختياره، قادراً على القول وعلى السمع وعلى الرؤية دون وصاية من أحد، إلا من تغلغلت فيه الأدلجة وبلغت منه النخاع، فلا يستطيع الانفكاك عنها بحال.. لقد بلغ هذا الإنسان - اليوم - سن الرشد، ومن قبل لم يكن قادراً على بلوغه إلا بشق الأنفس، وبعد القفز من فوق حواجز كثيرة وخطرة، قد تودي به. طبعاً، لم يقف التقليدي - الذي حقق في فترة من فتراته نجاحاً ملحوظاً في القدرة على التنميط - أمام هذا العالم الجديد الذي يزعزع مكتسباته النمطية مكتوف الأيدي، بل كانت ردة الفعل من قبله شديدة العنف في بعض صورها (الإرهاب مثلاً) وفي بعض صورها كان العنف على مستوى القول لا الفعل، أو القول المحرض على الفعل.. المنجز النمطي تعرض لما يشبه الانهيار بعد الثورة الاتصالية، وكان من الطبيعي أن يخرج النمطي عن طوره أمام الخسارة التي تهدده كحراك مؤدلج. لم يستطع النمطي أن يعي طبيعة التغير الذي حدث، أو أنه لا يريد أن يعي ذلك.. ولذلك رأيناه يعود لآلياته القديمة في إلقاء التهم التي تتضمن معنى من معاني الخروج على النمط، من تكفير وتفسيق وتبديع وتخوين.. هذه التهم أصبحت تتردد فيما يشبه السعار المجنون في الوسائط التي تبيح تصدير أمثالها.. من يطالع عالم الانترنت يلاحظ كيف أصبح المؤدلجون يرمون بمثل هذه التهم لمجرد الاختلاف والإيمان بالتعدد والتنوع.. هناك محاولة منظمة - أو شبه منظمة على الأقل - لتعزيز ظاهرة التنميط، ورمي من يحاول الخروج من أسرها بالخروج على المجتمع وقيمه، والإسلام وثوابته. الوسيط الإعلامي المتنوع فضح رموز التنميط الذين كانت تدور عليهم حراك الإيديولوجيا المحلية.. من كان رمزاً معرفياً (تنميطياً) في فترة ما، كان كذلك، لأنه لم يكن يقف في ساحة المعرفة، وإنما كان يقف في ساحة العراء.. الذين كانوا أمامه كانوا فراغاً يملؤه كيف يشاء.. الكائنات النمطية كانت منومة بقوة الإيحاء بالرمز المثال.. لذلك لم تكن تسأل أو تحاور، وإنما كانت تتلقى و(تتلقن) ومن ثم تتنمط كما يراد لها، كان الرمز يحدثها عن كل شيء، في الفلسفة وفي الفكر الحديث، وفي السياسة وفي الاقتصاد، بل وفي الفلك وفي الطب.. إلخ!!! كانت الجموع المنمطة تأخذ منه كل ما يقول بوصفها الحقائق النهائية.. إنها لا تأخذها بوصفها رؤية من رؤى، وإنما بوصفها الرؤية التي يجب على الجميع الإيمان بها، وإلا فإنهم منحرفون حداثيون علمانيون إلخ...!!! لم يكن الانفتاح الإعلامي لصالح الرمز النمطي، لأنه كان رمزاً هشاً من حيث البنية المعرفية، كانت قوته الوهمية تأتي بسبب الكائن المتماهي معه، الكائن المؤدج والمنمط والمحصن ضد الاعتراض والسؤال.. لذلك سرعان ما أصبح هذا الرمز فضيحة إعلامية، بعد أن وضع على المحك، في مواجهة رموز المعرفة الحداثية التي واجهها - وانتصر عليها في الماضي - بالأدلجة وبتجهيل الجماهير، لا بالحوار المعرفي الجاد. بعد أن بدأت تتهاوى الرموز الحركية التي اضطلعت بعبء التنميط في الماضي، وبعد أن بدأ المنمطون - أو كثير منهم على الأقل - يستفيقون من الغفلة النمطية التي أدرجوا فيها، اشتد العويل وارتفع الصراخ، خوفاً على الهوية وحرصاً على الدين، وما هو إلا حرص على المكتسب الحركي الذي يشد من أسره الكائن النمطي. تغيرت الحال، بل تغيرت كثيراً، ولم يعد للكائن النمطي من وجود إلا في بعض جيوب الحراك الايديولوجي.. لكن لا يريد الحركي أن يصدق هذا الواقع الجديد، هذا الواقع الذي أصبح الإنسان فيه شيخ نفسه.. لذلك، يسأل من لا يفهم طبيعة التنميط السابق، وحقيقة المكتسب الايديولوجي: ماذا يريد هؤلاء منا؟ يطرح هذا السؤال، عندما يسمع المناداة بالرجوع إلى القيم، وضرورة التمسك بالإسلام، وعندما تطرق سمعه التهم من هنا وهناك، لهذا المثقف أو ذاك.. إنه يرى مجتمعه مسلماً ومحافظاً، ولذلك لا يفهم لأمثال هذه الدعاوى معنى. نحن الآن في زمن ما بعد الكائن النمطي، في زمن التحرر من أسر النمط الخانق، على المستوى المحلي على الأقل.. قبل سنوات لا تتجاوز السبع - وربما الخمس في بعض البيئات! - كان من المستحيل على الأستاذ في الجامعة - فضلاً عن غيرها - أن يحيل طلابه إلى برنامج فضائي، وان يجعله محور نقاش.. كان يحرص على أن ينأى بطلابه عن هذا المضمار، وكان - من جهة أخرى - لا يريد أن يظهر بمظهر المتابع لهكذا إعلام. الآن، بدأ الطالب يسأل عند كل ما هو بعيد في مضان الفكر والواقع.. أصبحت القضايا التي كانت من قبل تقول: لا مساس، قضايا مطروحة من قبل الطالب قبل الأستاذ.. قضايا متعالية - ومستشكلة - في السلم العقائدي والكهنوتي والمعاملاتي يطرحها الطالب بكل ثقة وجرأة، خاصة إذا ما وجد من أستاذه انفتاح صدر لمثل هذا، وقدرة - من قبل الأستاذ قبل الطالب - على الحوار والاحترام. انتقل الفتح الإعلامي إلى الميادين المعرفية الخالصة.. من المستحيل أن يقيم الإنسان حاجزاً بين هذا وذاك، ومن المستحيل قمع الأسئلة - مهما كانت خطورتها - في مهدها.. لا إجابة واحدة، ولا إجابة نهائية على أي سؤال.. أسئلة كبيرة وخطيرة وغير معهودة لا تنتهي، وأجوبة لا تقل عنها كبراً وخطورة وطرافة في العالم المعاصر الثائر معرفياً. الإنسان الآن - الإنسان الما بعد نمطي - إنسان مختلف، يصعب احتواؤه حركياً ومعرفياً.. إنه إنسان متحرر من أسر الكهنوت المورث إلى حد بعيد.. وسواء نظرنا إلى هذا الأمر (التحرر) بوصفه واقعاً إيجابياً أو بوصفه واقعاً سلبياً، فإنه في الأخير واقع يجب علينا أن نراه كما هو، لا كما نريده أن يكون.. يجب علينا أن ندرك طبيعة هذا التحرر غير المسبوق، وأن نحسن التعاطي مع أسئلته وأجوبته المتجددة كل آن. وهذا الإنسان المتحرر من هذا الأسر واقع في سياق تحرر نوعي لا كمي، قياساً بما مضى.. إنه متحرر يختلف عن المتحررين في فترات ماضية من تاريخنا، لأنهم كانوا متحررين من جهة، وميّالين إلى مرجعية ما، من جهة أخرى.. لقد كان تحررهم من أثر مرجعية ما يتم لحساب مرجعية أخرى..أي أن المرجعية - من حيث هي مرجعية - لم تفقد، وإن تغيرت.. وهذا ما لا نجده الآن في الإنسان الحديث (الما بعد نمطي) حيث أصبح فاقداً للمرجعية ككل.. إنه إنسان بلا مرجعية وبلا ثقة يعتمد عليها. وإذا كان ثمة من تصور ثابت، يمكن أن يتكئ عليه هذا الإنسان في تعاطيه مع الواقع المتعين ومع عالم الأفكار، فإنه تصور يؤمن بالتحول والتغير الدائم من جهة، وبالنسبية التي تطغى على الواقع وعلى الفكر من جهة أخرى.. إنه إنسان متصالح مع عصره الذي يتفجر تغيراً وتبدلاً كل يوم، ولذلك فهو الابن الشرعي له بكل جدارة. ولا ينتهي هذا الإنسان المشكل عند هذا الحد.. فكما أنه متجاوز للمرجعيات التقليدية من حيث الرؤى والتصورات والحراك المؤدلج، فإنه إنسان متجاوز لأسئلة الهوية جمعاء.. إنه - بصورة ما - إنسان العولمة الحديث، إنسان متجاوز للهوية القومية والدينية - وهذا وصف لواقع، وليس بالضرورة تأييداً - وباحث عما وراء ذلك من الكلي الإنساني.