تتغير أدوات التهريج ولكنه يبقى تهريجاً. تتعاقب فصول الضحك ولكنه ضحك كالبكاء. تتطور إمكانات المهرج ولكنه يبقى مهرجاً في دور صغير أو كبير، إلا أنه خطير ومعطل وملتبس. اللافت أن هناك جمهوراً مازال يصفق!! رحم الله "محمود شكوكو" فقد كان ممتعاً ومسلياً ومضحكاً في مرحلة كانت الحظوة للشاشة الفضية التي تقدم لك بعض البهجة بلونين فقط. يأتي شكوكو ليجسد شخصية مهرج جميل بكل بساطة وعفوية وقبول مرحلة مختلفة، مقارنة بمراحل مختلفة أصبح التهريج سمة تكاد تكون كلها مراحل شكوكو إلا أنها من نوع مختلف. الفارق بين شكوكو ذلك الزمن، و"شكوكوات" اليوم، أن ذلك الشكوكو كان يسعدنا ويضحكنا وينزعنا من عالمنا الصغير لنسعد بلحظات مختلفة في عالم لم تكن فيه وسائل الترفيه ولا نجوم الفضائيات ولا تقنيات التواصل الاجتماعي سمة مرحلة بحضورها الايجابي والسلبي. كان ثمة بهجة مختلفة يطل عليها فنان شعبي بسيط وأمي مثل شكوكو كسذاجة الضحك في تلك الأيام الخوالي. الفارق بين المراحل، أن شكوكونا كان بسيطا مسليا لا يفارقه جلبابه البلدي المشدود على خصره، ولا ذيل طربوشه الشهير، ولا طبلته الصغيرة وفرقته السعيدة. أما شكوكو اليوم فله ملامح أخرى وعلى كثرة وتنوع وامتداد حضوره فهو لا يستدعي الضحك. عالمنا اليوم حافل بكل أنواع الشكوكو، فقط تختلف ملامحهم وأرديتهم وحضورهم ومهامهم... إلا أن هناك ملمحاً يتشابهون فيه، وهو أن تهريجهم طافح بالبؤس، وكلفته عاليه، وأنهم لا يستدعون الضحك إلا إذا كان ضحكاً كالبكاء. كانت نظرية شكوكو في أوج شهرته "شوف الناس تبص لمين" إلا اننا استمتعنا بتهريجه ومونولوجاته وبساطته التي كانت ببساطة مهرجي زمنٍ رحل ولن يعود. أما نظرية "شوف الناس تبص لمين" فهي تنطوي على قصة طريفة رواها ذات يوم صديق مصري كبير. فقد كان شاباً يختلس الفرص لحضور ندوة الأديب الكبير عباس محمود العقاد الذي يعقدها ظهر كل يوم جمعة في منزله في مصر الجديدة. في دارة العقاد جاء أحد مريديه وهو يُبيت النية لإثارته، وفي وقت كان شكوكو نجماً تصنع له دمى صغيرة من الخشب بالجلباب البلدي لتباع في شوارع القاهرة. قال له: إن ثمة لقاء إذاعياً أُجري مع شكوكو، وقد سأله المذيع بنوع من التفكه، أو باستبطان خبيث لجره إلى مأزق الإحراج بجهله، عما إذا كان يعرف الأستاذ عباس محمود العقاد. إلا أن شكوكو البسيط الأمي لم يتردد في إخفاء جهله، فقال "لا معرفوش".. فقال له المذيع "ازاي دا أديب كبير وكاتب مشهور وقمة أدبية وفكرية في مصر وخارج مصر". استغرب شكوكو من هذا العقاد، لكن جهله أيضا لم يحل دون أن يكون مباشرا في تعبيره عن ذاته ومفاهيمه للشهرة فقال: "ويطلع مين العقاد دا .. وشهرة إيه.. أنا لو مشيت في الشارع ومشي صاحبك العقاد من الناحية التانية.. شوف الناس تبص لمين". "شوف الناس تبص لمين" هذا المفهوم الساذج لأحقية الحضور يشكل الملمح الأهم في ذهن وعالم شكوكو. إلا انه ليس شكوكو وحده، إنهم كثر أولئك الذين لا يرون الأحقية في الحضور إلا على وهج الجماهير حتى لو كانت تصفق لمهرج. إنها تصفق فقط لنجمها المفصّل على مقاس اهتماماتها ووعيها وقدراتها وذائقتها وبيئتها التي صنعت منها نجومها أو صنعوا نجوميتهم على مقاس وعيها واهتماماتها. وإذا كانت تلك المرحلة تتعدد فيها هالات النجوم بين الفكر والأدب والفن.. حتى لتجد النجومية والقامة تطالان الأديب والمفكر والسياسي والفنان.. وحتى المهرج، إلا أن انحسار النجومية في زوايا المتع الترفيهية طالتها سمة مرحلة تراخت فيها قيم الفن وتوارى في ظلالها عمالقة الأدب والفكر. "شوف الناس تبص لمين" أنتجت فيما بعد عاهات ذوقية. هل تستعيد التطورات الكبرى التي تعصف بالمنطقة العربية اليوم وهجا جديدا يعيد التوازن إلى مجتمع سيرى عالمه ايضا في مشروع الانجاز .. وليس فقط في مشروع ترفيه طالته كما طالت قيماً كثيرة عوامل التعرية حتى زوايا الاندثار؟ ليس هذا مقالا في تحولات الذائقة الجمعية التي أصابت الحس العربي لدرجة الانهماك في عالم "شوف الناس تبص لمين"، فهناك مرحلة مختلفة تطل برأسها، وسيكون لها تأثيرها بشكل او بآخر في استعادة جيل شاب متعاظم الوعي تجاه قضايا أكثر أهمية بعد عقود من التعطيل والتهميش. ثمة مرحلة تراخت فيها ذائقة الجمهور، واكتسحت الشارع العربي نوعيات مختلفة من النجوم، ليس فقط في مجال الفن، بل في مجالات أكثر كلفة، تجمعها قدرتها على التهريج، وهي لا ترتدي جلباب شكوكو، بل تتنوع في حضورها وتأثيرها وأدوارها، وهي تستثمر الخلل في البنية الثقافية، وحالة الجهل الطافح على الأرصفة والمقاهي والشوارع .. وقد استبدت بمسرح الحياة حتى سممته. ثمة مرحلة راكمت الصدأ على النفوس والعقول، إلا أن المفاجأة الكبرى أن يكون هذا الجيل الشاب الذي طالما كان موضع شك في قدرته على استعادة روح التحدي، فإذا به يواجه واقعه بشجاعة، ويتصدى لقضايا حقوقية كبرى، وهو يدفع ثمنا باهظا في سبيل تحرير ذاته من سجن الارتهان الطويل. شكوكو القديم رحل، وقد كان في دائرة المتع الصغيرة والبسيطة يمارس فنه بعفوية وبساطة ابن البلد، أما جمهور تلك المرحلة فقد كان يتمتع أيضا بمدى أوسع تتنوع فيه دائرة اهتماماته، وتتحرك فيه بذرة التنوير التي كادت تختنق تحت وابل ركام عقود الانحطاط والتجهيل. لقد تناسلت "شكوكوات" خلال العقود الماضية - كتعبير عن مرحلة - على معابر الوظيفة أو الدور أو الثقافة الرخوة .. وحتى عندما تتعرى لكثرة تهريجها وتخريجها لم تكن في عين الجمهور حالة تساؤل أو استعادة لوعي آخر. يرحل شكوكو ولا ترحل، تطوى المراحل، وهي لازالت تمارس تهريجا مكلفا وباهظا وجمهورا مازال يصفق. وقد تكاثر المهرجون، إلا أن مهنتهم ليست كمهنة شكوكو المحترمة، وهي الإضحاك بتلك السذاجة والعفوية. إنهم مهرجون من خطر يمرر الأخطاء، ويبرر التراخي، ويلبس الحق بالباطل. يتحدثون كثيرا عن الفضائل وعالمهم مليئ بالرذائل .. ويُعظّم حضورَهم جمهورٌ مازال يردد مع شكوكو "شوف الناس تبص لمين". ربما لم تبرح بعد نظرية شكوكو القديمة مكانها " شوفوا الناس تبص لمين ". وقد "بصينا" حتى كلت عيوننا، فهل اكتشفنا أن التهريج ليس بابا واحدا، ولا عقلا واحدا، ولا حضورا واحدا، وأنه متحول حسب مقتضى الحال، وحسب الوظيفة والدور والزمان والمكان؟ تتغير أدوات التهريج ولكنه يبقى تهريجاً. تتعاقب فصول الضحك ولكنه ضحك كالبكاء. تتطور إمكانات المهرج ولكنه يبقى مهرجاً في دور صغير أو كبير، إلا أنه خطير ومعطل وملتبس. اللافت أن هناك جمهوراً مازال يصفق!!