العمل شريعة الحياة ومحورها، وسبب نهضة الشعوب، فالإنسان منذ أن بدأت الخليقة يعيش على الأرض وهو يكد ويعمل بكل كفاح ليعيش ويرتقي بنفسه ومجتمعه مع عبادة ربه. وهكذا أصبح الإنسان يعمل ويكدح مثل الآلة من دون توقف وفي المجتمعات الحديثة وبالذات في العمل الحكومي أصبح للموظف سناً للتقاعد ومن ثم يودع العمل. وقد يرى بعض من هؤلاء الموظفين سن التقاعد شبحاً يطاردهم مثل ما حصل لصاحبنا فلان من الناس وهو أحد الأصدقاء فقد عايشت مأساته وأحببت أن أداعب مشاعره من خلال هذا المقال بعد تقديمي واجب العزاء له إثر تقاعده؛ لأنه كان مهموماً إلى درجة الكآبة. ماذا جرى لك يا صديقي عندما نزل عليك نبأ التقاعد كالصاعقة فأنت لم تكن أنت ماذا أصابك ولسان حالك يقول لقد جرى بي قطار العمر سريعاً وأتاني ما أخشاه ومن دون سابق إنذار يا لكآبتي ماذا جرى لا يمكن لا أصدق إنني أعيش في حلم إنه وضع جديد لم أعهده لن أجد نفسي فيه أرجوكم أعيدوني إلى حيث كنت . وهكذا عاش صاحبي مأساة ما بعد التقاعد وفقد بهاءه وجماله وهيبته وفقد كيانه وأنا أحاول إخراجه مما فيه ولكن من دون جدوى، فالصدمة كانت كبيرةً ولم يتحملها، ألهذه الدرجة يكون التقاعد مخيفاً مقلقاً، وهل هو بعبع مخيف يهدد الموظفين؟!. مع الأسف أصبح صديقي وردة ذابلة ونحل جسمه، وفقد نضارته أصبح يصف نفسه بالميت، وأنه أصبح عظاماً نخرة، ولقد بكيت لحاله وهو يتجرع المرار، ويصف نفسه بهذا الوصف المرعب المثير، وطلب مني أن أقيم له مأتماً وهو حي يرزق!! وهو يفتش عن نفسه وهو قابع وحيداً في منزله فلا يجدها، فلقد تبعثرت أجزاء في رحلة العمر القصير فلقد خرج من عالمٍ زاخرٍ بالموظفين والمراجعين، لقد فقد المادحين والمصفقين والداعين والخادمين فقد عنفوانه، فقد كيانه إذ إنه ظل يعمل سيداً مطاعاً مهاب الجانب مقدماً في المجالس عندما زاد نفوذه من خلال الترقيات والمناصب. لقد أنفق حياة طويلة في العمل وجد معها ذاته ولذته مع نفسه والناس، وفجأة توقف عن العمل وتوقف إنتاجه واضمحل معه بريقه ونجمه الساطع وكأن الذي توقف هو قلبه! أصبح بعد تقاعده وكأنه يعيش في كهف مظلم مخيف خال من السكان ولم يبق إلا الدواب بعدما كان العاشق والمعشوق وسامحوني أن أصفه بالمطلقة التي عافها زوجها وطلقها وأبعدها من منزله فأصبحت كسيرة الجناح ولا حول ولا قوة إلا بالله. فالله يجبر بخاطر صاحبي الذي قارب على الجنون وبرج من دماغه طار. استحالت السعادة مرافقته واعتذرت له، الفرحة هربت من دنياه، أبكاه ما أبكاه الوحدة الفراغ، تخلي كثير من الناس عنه عدم مبادرته بالسلام مثل زمان والله إن نياط قلبي تتقطع وأنا أنظر إليه وهو ساهم شارد الذهن محتار، فعقله طار ودمعه على خديه نثار. كفاك يا صديقي أرجوك لا تقتل نفسك أوقف تيار الأحزان وعش اللحظة، فالدنيا مملوءة بمقومات الجمال وأجمل ما فيها عبادة الأحد الفرد المنان وتشمير الساعدين والاستزادة من الأعمال الصالحة استعداداً للقيا الكريم المتعال. ولكن مستحيل أن ينسى صديقي ذلك البستان الجميل، بستان العمل حيث كان يعيش فيه سنين طوال فكم أمتعه، كم أسره، كم أبهجه، كم سلاه، آه لقد أصاب البستان القحط لم تعد الطيور تغرد فيه واصفر وجه الزمان وشح الماء فأجدبت دنياه. اليوم يوم التقاعد فحق له أن يبكي أيامه وتلك العشرة الطويلة للوظيفة آه وألف آه، فلقد سمعته يقول لي يوم تقاعدي مثل أكل الحنظل بقي طعمه في حلقي أتجرع مرارته كل يوم، كل لحظة ٍإنني لبست ثوباً أكرهه إنها مؤامرة حينها بادرته بالجواب، وربت على كتفه قائلاً: اذكر الله أي مؤامرة انها سنة الكون ولادة ووفاة، بقاء ورحيل، سعادة وشقاء، فعش يا صديقي مع الله بقية سنينك، ولا يهزمك القنوط ولا تستسلم للأحزان، فتغتالك الأمراض النفسية، واشغل أوقاتك، فرد قائلأ: ولكني أصبحت وحيداً ولا يوجد من يواسيني أو يناجيني غاب عني الأهل حتى من كنت أحسبهم أصدقاء إنهم أصدقاء الوظيفة، فتعساً لهم، اتركني يا صديقي فأنا أعيش لحظات مخلوطة بالدموع والحنين والأنين، وأكاد أغرق بدماء هذه الأوجاع ومن طعنوني من غير سلاح فلن أعود للعمل ثانيةً أصبحت وردة ذابلة تركني أغلب الأصدقاء اتركني لأقضي ليلتي الصامتة في وحدتي هذه أصارع الأحزان مع نفسي وأقبع في غرفتي وحيداً منكسراً الوداع الوداع.