الأصل في ألفاظ اللغة هو الأشياء المادية الملموسة، حيث بدأ الإنسان يُسًمِّي ما يرى ويحس، ومع التطور الثقافي والحضاري دخل المجاز، وألبس المعنوي لباس الحسي، فلفظة (العرض) تطلق في الأصل على الوجه، ثم صارت تطلق على المحارم، وعلى كرامة الإنسان وسمعته بشكل عام. والعربي حريص جداً على كرامته وسمعته؛ لأنه شهم كريم يحب الذكر الحسن، ويعشق مكارم الأخلاق، ويكره أن يذكر بلؤم أو بخل وسوء، كما يكره العمى. واللؤم من مرادفات البخل، فاللئيم كريه السمعة، ينهش الناس عرضه بالكلام عن لؤمه، والبعد عنه والتقطيب في وجهه، وكذلك الغادر والجاحد للجميل، والطاعن للصديق، وكل تصرف يتنافى مع الضمير الأخلاقي في أعماق الإنسان. وبالطبع تظل الغيرة على المحارم، من زوجة، وبنات، وقريبات، هي الأساس الذي لا نقاش حوله، ولا يختلف عليه اثنان. أصون عرضي بمالي لا أدنَّسه، لا بارك الله بعد العِرض في المال والعرب من أشد الأمم حرصاً على المحارم، وغيرة عليهن، وإبعادهن عن موطن الشك والريبة، وتلك خصال جميلة حض عليها الدين الحنيف. * * * يقول الشريف الرضي: (ما يضر الفتى إذا صحّ عرضاً أن يرى الناسُ ثوبه مرفوعا) وهذا مؤكد، فالعرض هو الحياة والجوهر، أما المال واللباس فمجرد مظهر.. قشور.. ويقول أبو الأسود الدؤلي: «لا تكلمن عرض ابن عمك ظالماً فإذا فعلتَ فعرضك المكلومُ وحريمة أيضاً حريمك فاحمِهِ كي لا يُباح لديه منك حريمُ وإذا اقتصصت من ابن عمك كلمة فكلامهُ لك إن عقلتَ كلومُ» (لا تكلمن: لا تجرحن، والكلوم الجروح) والأقربون أولى بالمعروف، أما كف الأذى عنهم فهو أوجب الواجبات ديناً وعقلاً، على أن الدين الحنيف والضمير المستقيم والخلق الصحيح توجب الحفاظ على أعراض الناس كلهم، والإسلام يوجب الستر حتى على الخطائين، فكل ابن آدم خطاؤون، إما بالفعال أو بالكلام، وكان أبوبكر الصديق رضي الله عنه يقول: «لو لم أجد إلا ردائي لسترتُ بِهِ المذنب». غير أن من يعمل على إشاعة الفاحشة ويجاهر بها يجب ردعه وُجوباً.. وكذلك الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا بالقول أو الفعل يجب إيقافهم عند حدهم، وعقابهم حسب مقتضى الشرع الحنيف، وبهذا يظل المجتمع نظيفاً في مجمله، والمخطئ خزيان مختبئ بخطيئته.. اللي يريد الطيب يبعد عن العيب.. وما ينسكن قصر تبين عيابه ويقول السموءل: «إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه فكل رداء يرتديه جميل وإن هو يحمل على النفس ضيمها فليس إلى حسن الثناء سبيل تعيرنا أنا قليل عديدنا فقلت لها: إن الكرام قليل وما قل من كانت بقاياه مثلنا شباب تسامى للعلا وكهول وما ضرنا أنَّا قليل وجارنا عزيز، وجار الأكثرين ذليل» والسموءل تضرب به المثل العرب في الوفاء، والوفاء ينشر السمعة الحسنة، كما ينثر الورد عطره وبهاءه.. بن صقيه * * * ويشبه ابن الرومي العرض المدنس بمرض الجرب الداخلي (الإيدز الروحي).. قال: يا من يرى الأجرب الضعيف فلا يلقاه إلا مبيناً نكبه ما جرب المرء داء جلدته بل إنما داء عرضه جربه فالذي لا يحافظ على عرضه وسمعته ويتجنب مواطن الريبة ومظان الشكوك تسوء سمعته ويلوك الناس عرضه.. أما المستقيم المحافظ، الحر الناهض، فإن سمعته كالعطر الفواح، يثني عليه الناس، وتردد مديحه الأفواه، وينطبق عليه المثل الشعبي: (إذا وصله الكلام وقف).. فالنمامون والمغتابون والذين يخوضون في أعراض الناس لؤماً ودناءة، إذا وصلوا لسيرة المستقيم الحر الواضح النهج المبعد عن الريب وقفوا عن السب غصباً لأن الطريق أمامهم سد.. والمثل الشعبي المصري يقول: (إمشِ عدل يحتار عدوك فيك). وهذا صحيح.. * * * ويقول حسان بن ثابت رضي الله عنه: «أصوت عرضي بمالي لا أدنسه لا بارك الله بعد العرض في المال احتال للمال إن أودى فاكسبه ولست للعرض إن أودى بمحتال» فالعرض إذا انخدش كالزجاج إذا انكسر جرحه لا يجبر.. ويعرف لنا علي بن عزام الإنسان بقوله: «وما المرء إلا من وقى الذم عرضه وعز فلا ذام لديه ولا غش وليس بمن يرضى الدناءة وانحنا طباعاً ولا من دأبه الهجر والفحش» واحترام النفس بالفعل والقول والجد مفتاح احترام الآخرين، وذلك يكون بالسلوك الصحيح والبعد عن الحرص والطمع وضياع ماء الوجه، قال أبو الفتح: «صن حر وجهك لا تهتك غلالته فكل حر لحر الوجه صوان أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استبعد الإنسان إحسان وأشدد يديلك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان دع التكاسل في الخيرات تطلبها فليس يسعد بالخيرات كسلان ما كل ماء صداء لوارده نعم، ولا كل نبت فهو سعدان حسب الفتى عقله خلا يعاشره إذا تحاماه إخوان وخلان إذا نبا بكريم موطن فله وراءه في بسيط الأرض أوطان لا تحسبن سروراً دائماً أبداً من سره زمن ساءته أزمان» قلت: واختيار الصديق المستقيم المحافظ على عرضه وسمعته ولسمعة الإنسان، فالناس يقيسون المرء بصديقه.. * * * ويقول شاعرنا الشعبي محمد بن مسلم: «وما الوجه إلا فتر وعرضه إلى ضاع من يعطيك وجه تعاض به صنه عن ردي الخال والجد والذي إلى شاف وجه قاصده صر حاجبه» ولمحمد السياري: «أوصيك يااللي تطلب المجد واثنا ترى الخطا في المرجلة صواب وترى كل طير صيدته قدر همته الحر حر والغراب غراب» ولعبدالله بن صقيه: «اللي يريد الطيب يبعد عن العيب ما ينسكن قصر تبين عيابه» ولمرشد البذال: الرجل يحيي سمعته عقب ميتته ثلاث معان سالمات العيب أما حبيب ما تملك ربعته حبيب على الأصحاب والقريب والا أجودي نعمته مشكوره واللي ترجى منه ما يخيب والاشجاع لابته يذكرونه الى وصلت البلوى زرار الحبيب ولا الردي لو مات ما احد بفاقده حصاة حذفها الورع في القليب»