في بلادنا السعودية روادٌ أفذاذ في الفكر، أدباء في الكلمة، نماذج راقية في صدق وجدية العمل، هم كثرة تُسعد النفس، وتؤكد الأمل - لا نستطيع الإحاطة بذكرهم في مقال ، أو حتى جمعهم في كتاب - لكنني اليوم وقفت مشدوهاً أثناء سياحتي القرائية عند رسائل متبادلة بين قطبين شامخين من أعلام بلادنا فكراً ومكانة، هما صاحب المعالي شيخي وأستاذي عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري - رحمه الله رحمة واسعة - وشيخي وصديقي معالي الأستاذ جميل بن إبراهيم الحجيلان - أدام الله حياته وحب الناس له - . كلمات مختارة عفوياً وجدتها وأنا أقلّب بعض رسائل الأصدقاء الذين جمعهم الحب والرجولة وصدق التوافق في أمور العيش وأحداث الحياة، والعمل الجاد من أجل الوطن ورفعته *** لقد أخرج شيخنا التويجري - رحمه الله - ضمن إنتاجه الأدبي الثر المتنوع مجلدين بعنوان (رسائل خفت عليها من الضياع) وهي رسائل فريدة في مضمونها، وفي أفكارها وأسلوبها، حتى إنني كثيراً ما أعود إلى قراءتها، وأستمتع بعواطف الصدق والحب فيها. وإنني لأرجو من شيخنا صاحب الهامة الرفيعة صديقي أبي عماد الأستاذ جميل الحجيلان أن يسعدنا يوماً ويهدي الأجيال بإصدار ما عنده من رصيد هائل، وذخر كبير من الأفكار والتجارب الرائدة حتى تكون دعامة للحياة عندنا، وتراثنا غالياً لمن بعدنا. إنه حين يلتقي الحكماء، أصحاب الفكر الناضج، ويتبادلون الرأي والحب معاً فهم يجمعون بين صدق الحقيقة، ونضج الفكر، ويعبرون عن ذلك بأسلوب نابع من القلب، معبر عن الوجدان.. ولقد وقفت على بعض خطابات متبادلة بالود والحب بين الغاليين شيخي التويجري - رحمه الله - وصديقه أستاذي الكريم الحجيلان. *** كتب الشيخ عبدالعزيز التويجري - رحمه الله - ضمن ما كتب في رسائل إلى أخيه جميل الحجيلان قال (ليتني أعرف كيف تفكر اليوم! وكيف تعايش مسؤولياتك الحساسة عرفناك إنساناً مهذباً رقيق الحاشية، قليل الاستجابة لعالم لا ترتاح له نفسك، ولا تراها على مرآتك - فمرآتك الخاصة مرآة غير مبتذلة لا يباع فيها ولا يشترى في سوق الباعة.. هكذا رأيتك). جمل أدبية راقية الأسلوب.. منتقاة الكلمات، مشحونة بصادق العاطفة، مبلورة الأفكار، مما يُدخلها في عداد القطع الأدبية الراقية فهو يبدأ بالاستفهام التعجبي (ليتني أعرف) ويتابع ذلك بالجمل الخبرية التي تحمل الثناء الصادق (عرفناك إنساناً رقيق الحاشية) وهي كناية دقيقة التعبير عن رقة النفس وصفاء الروح، ونقاء المشاعر عند صاحبه. وما أجمل الاستعارة الأدبية البديعة (مرآتك الخاصة غير مبتذلة..) مما يعطينا صورة عن خصوصية هذا الإنسان المخاطب في روحه الشفافة، وفكره المتميز إذ إن نفسه مرآة لا ترى عليها إلاّ الخاص المنتقى من الأمور بشفافية مطلقة، ويؤكد هذا التفرد في هذه السمات الغالية ويقول له (مرآة غير مبتذلة لا يباع فيها ولا يشترى في سوق الباعة). وكم أعجبني قوله (سوق الباعة) رغبة منه في التفرد والخصوصية التي يمتاز بها صديقي وشيخي الحجيلان، فقل في هذا مثله بين الناس.. ورؤاه للأمور والحياة تتصف بالحكمة والعقل. إنها الأخوة المصفاة.. والعلاقات الإنسانية النبيلة غير المصطنعة تكلفاً أو رياء لكنها الصدق الحق والنبل الجم، والوفاء الراسخ.. يشعر به شيخنا التويجري في وجدانه وتمتلئ به جوانحه، فعبر عنه بهذا الأسلوب الأدبي في رسالته. *** وردّ الشيخ الحجيلان على إحدى رسائل صديقه المخلص - فجاءت عاطفته صادقة كذلك، وخواطره نقية، وعبرت عنها كلماته المنتقاة وعباراته المصفاة إذ قال في رسالة جوابية (لقد وجدتك في خطابكم الأخير محمولاً على مشاعر المحبة لأخيك على نحو تجاوز ما أنا جدير به من ثناء، وإذا كان ما بيننا من ثقة أخوية متبادلة يرفع عنا عبء تبادل الثناء بثناء فإني مع ذلك لا أملك إلا أن أحيي فيك الرجل الواثق فيما يعمل وفيماي قول - نهوضاً بالمسؤولية الكبيرة). *** جميل.. رائع.. مثير للمشاعر الصادقة قوله (محمولاً على مشاعر المحبة لأخيك) فالمحبة ليست قولاً، وليست طعاماً أو شراباً - لكنها مشاعر.. مشاعر حساسة ناعمة - فالمحبة اسمى ما يختلط بوجدان الإنسان وفكره معاً.. حتى إن المحب لا يساوي شيئاً في نظرة من يحبه. ويقول له (على نحو تجاوز ما أنا جدير به من ثناء)، ولا يأتي هذا التعبير الصادق إلاّ من إنسان كريم الخلق، عظيم التواضع.. لا يحب المدح وكثير الثناء - وإن كان لا يشك في صدق وإخلاص مسديه له - لكنه حب الأصدقاء وحب الاخوان، وتواضع العظماء، وإبعاد مشاعر الغرور عنهم مهما كان موقعهم. ويقول لصاحبه معجباً به حق الاعجاب (أحيي فيك الرجل الواثق فيما يعمل، وفيما يقول نهوضاً بالمسؤولية الكبيرة). في هذه الكلمات المختارة القليلة يظهر أمامنا الشيخ عبدالعزيز التويجري - رحمه الله - لأراه كما رآه صديقه الحجيلان رجلاً يثق في نفسه، ويثق بجدية في عمله، ويثق بقوة في قوله، فهو رجل عمل قبل أن يكون رجل كلام - لهذا قدم (فيما يعمل) على (فيما يقول)-. كلمات مختارة عفوياً وجدتها وأنا أقلّب بعض رسائل الأصدقاء الذين جمعهم الحب والرجولة وصدق التوافق في أمور العيش وأحداث الحياة، والعمل الجاد من أجل الوطن ورفعته. *** إن الرسائل الإخوانية - تعتبر قطعاً أدبية غالية وفكراً عميقاً - يجب أن تكون ضمن النصوص المقررة على الشباب - ليتزودوا بما فيها من نفوس خالصة مخلصة، ومشاعر إنسانية نبيلة، ورجولة قوية قويمة صادقة في القول والعمل، بها ينشأ الشباب مستقيمين في الحياة، آخذين من هؤلاء الحكماء، الأدباء نماذج راقية، ومثلاً عليا. وكم احتوت هذه الرسائل على إلهام من الأفكار - والمستنير من الرؤى - سواء في إطار الحياة عامة - أو الوطن والأهل خاصة - لكنني لم أستطع سرد كل ذلك فاكتفيت بهذه الدرر القليلة نماذج لما أردت التعبير عنه، وما أكثره. *** وفقنا الله جميعاً إلى الخير والصواب والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها، اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأمدنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد.