أبشع وأقسى وأكثر ما قد تتهم به الأمة العربية في هذا الزمن هو أنها في تمسكها بحقوق الشعب الفلسطيني في فلسطين تمارس عنصرية إزاء اليهود بينما هي على النقيض تشعر بأنها مقصرة في مساندة أهم قضية واجهت العرب أو قد تواجههم على مرّ العصور وهي الحفاظ على عروبة فلسطين في أيامنا هذه وشعوب آسيا وأفريقيا تبحث عما يمكن أن يكون القاطرة الاساسية في سكة حديد التقدم البشري يطن في آذان المثقفين العرب صوت أبي العلاء المعري ببيته الشعري الشهير: كذب الظن لا إمام سوى العقل مشيراً في صبحه والمساء. إمامة العقل هذه أين نحن منها اليوم كأمة عربية هل نحن نسير اليوم بموجب توصياتها أم أنها بالعكس كانت وما تزال عاجزة عن معالجة سر تفوق الأعداء علينا؟! هل دخلنا نحن العرب عصر العقلانية، أم أن أعداءنا الأشرس أي الصهاينة وحلفاءهم هم كانوا ومازالوا سبّاقين إليها بمساندة أقوياء دول العالم وخصوصاً الولاياتالمتحدة الأميركية بينما التجسيد الأكبر للعقلانية في العالم العربي أي دعوة الوحدة القومية بين الأقطار، موضوعة على الرف تحارَب بكل الوسائل والذرائع؟ إن ذلك الاشتباك بين الاتجاهات المختلفة حول الوحدة والعروبة كان وما يزال أصعب ما تتعرض له القضية القومية منذ زمن بعيد، مفاعيله مستمرة بل على تفاقم. لم يكن هناك ما يشابه في الأهمية سائر الاحداث العربية النهضوية الجارية في المنطقة آنذاك مثل حدث الاستقلال اللبناني في العام 1943 إلا الروح المستقبلية والرؤية المستقبلية اللتان رافقتاه في مرحلة الولادة الاستقلالية، فصحوة النخب وعاطفة الجماهير كانتا غير غافلتين عن مصاعب الحاضر ومتطلبات المستقبل بل لم يفتهما جانب الخطر في التفاؤل المتسرع بنتائج وثبة استقلالية غير مصحوبة بالوعي الكافي على الحاجات والاستعدادات ولا سيما الصفات الذاتية والموضوعية عند القادة من الممسكين بالشارع. فقد كان مضى زمان طويل على تلك العهود نصف الاستقلالية التي حكم فيها لبنان المعنيون والشهابيون من آل معن وتنوخ. فرغم أنهم استندوا في أخذ السلطة وحكم البلاد إلى سلطان الفرنج بقدر ما اعتمدوا على منزلتهم التاريخية في بلادهم كأسياد وأصحاب شرعية في ديارهم إلا أنهم ظلوا بعيدين في سياساتهم وخياراتهم عن العقلية الاستقلالية الوطنية بالمفهوم الذي أصبح معتمداً في بلدان العالم. والواقع أن الشعوب العربية والاسلامية قد بدأت تشعر بأن الدول الكبرى قد تسمح لشعوب العالم بكل شيء ما عدا الاضاءة الكاملة على حقائق ووقائع القضية الفلسطينية منذ أن برزت وحتى يومنا هذا وكأن الدول التي في يدها الأمر في شؤون العالم تعرف جيداً أن التعتيم على حقائق الأحوال الفلسطينية هو أول الضرورات للابقاء على الأوضاع الدولية والاقليمية كما هي. فإذا كان العرب أو غيرهم يعتبرون أن الصهيونية هي كبرى البلايا في هذا العالم فإن الدول المستفيدة من بناء العالم كما هو بمعادلاته الحالية مستعدة للقيام بواجباتها. صحيح أن شخصيات كغاندي ونهرو ومحمد علي جناح وسعد زغلول أصبحت نادرة في هذا الزمن، ولا أحد تقريباً من رجالات العالم مستعد لسد هذا الفراغ، إلا أن عهد الطغاة كموسوليني وهتلر قد انطوى أيضاً، فالحاكم بعد اليوم لن يكون عملاقاً ولكنه لن يكون قزماً أيضاً على الأغلب بأي حال، وكما قال أبو العلاء المعري: كذب الظن لا إمام سوى العقل مشيراً في صبحه والمساء. ولو لم يكن في تراث هذه الأمة إلا إمامة العقل هذه التي دعا إليها ذلك الأعمى رهين المحبسين كما كانوا يسمونه حكيم المعرّة منذ ذلك الزمن فإن ذلك يبقى شاهداً على عظمة هذه الأمة بمسلميها ومسيحيّيها الذين ظلوا أوفياء لإمامة العقل هذه التي تعرف دائماً بين شروط العقل ومتطلبات القلب، في ثنائية جامعة استطاعت أن تجعل من العرب في مرحلة من المراحل أمة تنافسية تعطي العالم وتأخذ من موقع المشاركة في صنع التقدم للذات والآخر، فلا تبرع ولا أخذ ولا عطاء بلا أخذ، فكلاهما سوء فهم لعصر التنافسية، تلك الصفة التي من دونها لا تكون أمة منتمية الى العصر الذي هي فيه. فإذا كنا نشعر أننا لا نزال بعيدين عن الإنصاف بهذه الصفة فلا يصح أن ننسى أنها غاية لا يجوز التوقف عن نشدانها وألا نكون قد همشنا أنفسنا بإرادة منا أو غير إرادة. ولابد هنا من التأكيد أننا لسنا وحدنا في هذ الهمّ بل البشرية كلها ايضا لم تتخلص بالكامل من المفهوم الذي لا يزال معتمداً حتى الآن والذي يشترط في المرشحين للرتبة العليا في الوظائف أن يكونوا بيض البشرة وأنغلو ساكسون أي انكليزا أو أميركيين وأنجيليين مذهباً. كذلك الصينيون واليابانيون حكموا آسيا أكبر قارات العالم ولا يزالون يعتبرون أنفسهم في هذا الزمن الأنغلو ساكوني أقل مرتبة رغم أنهم نجحوا في أن يكونوا تنافسيين مع الواسب أي بيض الشعر الانجيليين في كل ما هو ريادي من انتاج العقل البشري... وقد تكون مشكلة هؤلاء مع الأنغلو ساكون أكبر وأشد استعصاء من مشكلة غيرهم من الشعوب والقارات. ولعل أبشع وأقسى وأكثر ما قد تتهم به الأمة العربية في هذا الزمن هو أنها في تمسكها بحقوق الشعب الفلسطيني في فلسطين تمارس عنصرية إزاء اليهود بينما هي على النقيض تشعر بأنها مقصرة في مساندة أهم قضية واجهت العرب أو قد تواجههم على مرّ العصور وهي الحفاظ على عروبة فلسطين. فمنذ مدة طويلة من الزمن وفلسطين تحولت وتتحول أكثر فأكثر الى أن تكون الصورة الابشع لسياسة قلب الحقائق التي يمارسها الاستعمار الغربي في الكثير من بلدان العالم. فالتوراة وهي كتاب اليهود المقدس تقول إن فلسطين كانت مسكونة قبل مجيء اليهود اليها من شعب قديم وشديد البأس هو الفلسطينيون الذين تنعتهم التوراة بالشعب الجبار صاحب الأرض القديم.