كشف حصاد عام راحل ليس ككل عام، عن أن معايير الحق الإنساني ليست متشابهة، وما يُحتفى به ويُدعم في بلد يناهَض ويسحق في بلد آخر. وأن التحالفات الطائفية والسياسية مقدمة على ملامح الإنسان الذي طالما وعدته بالحرية والكرامة عبر شعاراتها الجوفاء الخاوية عام 2011 بدا عاماً عربياً بامتياز. ولو أنصفت أكثر مجلة التايم لجعلت شخصية العام ليس المتظاهر فقط، ولكن المتظاهر العربي تحديداً. وربما يشفع لمجلة التايم أنها لم تر أن العرب جسد واحد يتداعى لبعضه في استجابة نادرة. إنها في معرض اكتشاف دول في طور التغيير الأكبر عبر شخصية المتظاهر، لكن ربما تجاوزت أن تلك البلدان التي اشتعلت فيها الثورات تجسد فيما بينها ما هو أكبر من ملامح متظاهر إلى ذلك الوجدان المشترك والمأزق المتشابه بين سياقات ومسارات وأوضاع تشكلت خلال أكثر من نصف قرن. عام 2011 لن يكون عاماً عادياً... ولن يمرر بسهولة في ذاكرة العرب والعالم والبلدان التي استلهمت مبادرة التغيير عبر شخصية المتظاهر. إنه كالأعوام الكبرى في التاريخ، وسيصطف إلى جانب أعوام مختلفة شكلت حدثا عالميا مؤثرا كالأعوام 1917 أو 1939 أو 1945... وغيرها من تلك الأعوام التي لازالت الذاكرة تستعيدها باعتبارها مراحل فاصلة وحاسمة ومؤثرة في مسار الأحداث وصناعة التاريخ. ماذا عن حصاد العرب في عام العرب؟ ماذا جنى العرب من هذا العام الذي لا يشبهه عام آخر؟ الذين يقيسون تأثيرات الأحداث الكبرى بنتائج مباشرة وسريعة وحاسمة، فليس من الغرابة أن يكون عاما مربكا ودمويا وفوضويا .. وسواء انطلق هؤلاء من تلك الظلال التي تلقي بها عليهم نتائج تحولات كبيرة وفاصلة في فترة قصيرة جدا من عمر الشعوب، أو انطلقوا من هاجس الشارع العربي المأزوم بقوت يومه.. فإن هذا القياس لا يعتد به، فهي انطباعات وخلاصات لا تأخذ بالاعتبار طبيعة الثورات ومخاض التغيير ومواجهة تركة عقود التوقف والتعطيل والظلم والاستبداد. لن يكون عام 2011 سوى العام الذي شكل نقطة التحول الكبرى في البلدان العربية التي مر بها قطار المتظاهر العربي حد الحسم، أو حد مواجهة بالغة الكلفة لازالت تلقي بظلالها على مستقبل التغيير ومساره. من طبيعة التغييرات الكبرى أن تمر بمرحلة مخاض صعبة وعسيرة، ومراحل انتقالية مريرة ومربكة وتظهر على السطح انبعاثات ما أُخفي تحت سقف الإخضاع بالقوة، كما أنها تتعرض لثورات مضادة، ليس مصدرها فقط المستفيدين والمرتبطين بالنظم السابقة، ولكن لطبيعة التكوين السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي في تلك البلدان، والصراعات التي ستكون مجالا لتدخل العديد من القوى التي تتنازع المصالح والحضور والتأثير.. ويبدو اليوم أن مسار التغيير ماضٍ، وهو يواجه بقوة محاولات إيقافه أو قولبته أو رضوخه لاشتراطات التغييرات التي تطال الشكل دون المضمون أو تكتفي بعملية تجميل أو إخراج مناسب لشروط مرحلة. لقد خرج المارد الشعبي من قمقم الخوف. إعادة الزمن للوراء تبدو من المستحيلات. الامتحان الأصعب في الاستجابة لشروط مرحلة مختلفة تماما. وإذا أمكن أن نمرر أبرز ملامح هذا الحصاد في عدة نقاط سريعة، فيمكن القول: إن من أثمن سنابل هذا الحصاد، أن أكثر من نصف العالم العربي يوشك أن يودع إلى غير رجعة نظم الاستبداد والقمع التي لم تبرع سوى في تكريس مؤسسات المصادرة والالغاء. فالمرحلة اليوم مرحلة صناعة دساتير وطنية ديمقراطية، لن تسمح بعودة الزعيم الفرد والقائد الأبدي والرئيس الممتد. الذي أحال نظامه البلاد والعباد عبر عقود إلى أوضاع مزرية، بدا أن الخلاص منها قبل عام أمر مستحيل. تكريس الديمقراطية كوسيلة لا عوض عنها في حسم مراحل الصراع بين القوى السياسية التي تتفاعل على صعيد الاحداث، إنما هو ثمرة مباشرة لأحداث التغيير خلال عام. صندوق الاقتراع لم يكن كسابقه ولن يعود كسابقه. إنها المرحلة التي تجنى فيها عوائد التغيير عبر الاحتكام إلى الصندوق والركون إلى نتائجه. ومن ثمار الحصاد شيوع مفهوم الدولة المدنية الديمقراطية، والانحياز لها في خضم تكوينات اجتماعية وثقافية وسياسية لايمكن التوافق حول رؤيتها لعالمها دون الرضوخ لهذا المفهوم وتعزيز حضوره في الدولة القادمة. ومهما بدا أن ثمة تحفظاً او محاولة للتنصل من هذا المفهوم لدى بعض القوى السياسية إلا أن ما يجري على الأرض يؤكد هذا الانحياز في نهاية الأمر. ومن حصاد العام المنصرم الذي لا يشبهه عام آخر بروز الإسلام السياسي من المغرب إلى المشرق كقوة فاعلة اجتماعية وسياسية أخذت تبلور مواقف وتوجهات متقدمة، وتتفاعل مع معطيات مرحلة التغيير. حصاد هذا العام بدأ يكسر فوبيا الإسلام السياسي، وظهر أنه قابل للتغيير وأنه ليس قالبا مصمتا أو تكوينا جامدا. وظهر في أكثر من بلد عربي شهد التغيير أنه يدرك متطلبات وشروط وعبء إدارة الدولة عندما يضع أقدامه في طريق الحكم على خلاف ما يروج له في مراحل المعارضة أو في مراحل التهويل والتخويف التي صاحبت بروز هذه التيارات في الشارع العربي على مدى العقود الثلاثة الماضية. ومن حصاد هذا العام انكفاء تنظيمات التطرف والعنف وعلى رأسها القاعدة. فهي كارثة كبرى عطلت قدرات كثيرة ووفرت مناخات استفادت منها أطراف خارجية وإقليمية لمزيد من الإنهاك والتعطيل. وهي تنظيمات وصلت إلى طريق مسدود. ثمة فارق كبير بين تكوينات سياسية إسلامية واقعية توائم حضورها ودورها في إطار التنافس على السلطة، وهي تخضع للتجربة، وتواجه استحقاقات الداخل وعلاقات الخارج وهي تقدم نفسها لعالم لايمكن الانعزال عنه، وبين تنظيمات متطرفة معزولة دموية لم يكن حصادها سوى الدمار والتعطيل. ومن حصاد العام الراحل، انكشاف الأكاذيب الكبرى التي طالما اصطفت إلى جانب الشعارات الزائفة والمخادعة. لقد انكشف زيف ادعاءات الممانعة والمقاومة أمام محنة نظم الظلم في مواجهة هتافات الحرية. حصاد عام كشف عن الجميع أمام الجميع. لم تعد هناك ورقة توت تستر المخادعين والكاذبين والمتعيشين على شعاراتٍ ما إن أُخضعت للامتحان حتى سقطت في أول مواجهة. وكشفت الاصطفافات في مواجهة استحقاقات انتفاضات، وثورات الشعوب العربية عن أن التيار الحقيقي المعطل، هو ذلك التيار الذي ادعى طويلا المقاومة والممانعة كذبا وزورا وبهتانا. كشف ربيع العرب الدامي عن مواقف بعض المنظمات والأحزاب والتيارات وحشد من المثقفين الممانعين الذين انحازوا لإخضاع المتظاهر العربي وإعادته لبيت طاعة النظام الذي طالما سحق كرامته وآدمتيه. كشف حصاد عام، عن أن من كان رمزاً ممانعاً أو مقاوماً، لم يكن أكثر من مرتبط خانع لمعادلة يُخرج منها الانسان العربي الحر، ليبقي فقط على امتيازاته ومصالحه وتحالفاته، حتى أصبحت مطالب حقوقية وطبيعية وإنسانية مؤامرة من مؤامرات الامبريالية العالمية والصهيونية والاستعمار الجديد الذي جاء يزحف عبر الثورات العربية!! كشف حصاد عام راحل ليس ككل عام، عن أن معايير الحق الإنساني ليست متشابهة، وما يُحتفى به ويُدعم في بلد يناهَض ويسحق في بلد آخر. وأن التحالفات الطائفية والسياسية مقدمة على ملامح الإنسان الذي طالما وعدته بالحرية والكرامة عبر شعاراتها الجوفاء الخاوية. كما كشف حصاد عام، عن أن الغرب المشغول بحقوق الإنسان وقضاياه، عندما تضغط عليه مصالحه وتحالفاته وحساباته يمرر كثيرا من الكلام والوعود، ولا يعنيه نهر الدم العربي المسفوح تحت سنابك دبابات الاحتلال الداخلي البشع. وقد كشف ما هو أهم وأعظم، أن مستقبل الأوطان رهن بالشعوب أولًا. ويجب ألا تنتظر مخلصا دوليا لا ينتظر سوى هتاف متظاهر. إنما هو الصبر والصمود والاصرار حتى لو تراءى له أن العالم أشاح عنه، فهو وحده القادر على صناعة مستقبله.