الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي تمسك من جديد بورقة الأرمن، الذين يقدر عددهم في فرنسا بنحو نصف مليون نسمة، لحسابات انتخابية ضيقة، وتقدمت الأغلبية البرلمانية بمشروع قانون ينص على عقوبة السجن لعام ودفع غرامة بقيمة 45 ألف يورو في حال إنكار ""إبادة الأرمن"" على يد العثمانيين الأتراك. وكان ساركوزي قد وعد الناخبين الأرمن قبل انتخابه في عام 2007 بإقرار مثل هذا القانون في حال فوزه في الانتخابات الرئاسية. مجلس النواب الفرنسي وافق على مشروع القرار في جلسة الخميس الماضي بحضور نحو 50 نائبا فقط من أصل 577 نائبا، لكن الموافقة هذه لا تعني إقرار القانون، بل لا بد من موافقة مجلس الشيوخ وتوقيع الرئيس الفرنسي. وهذا قد يستغرق أشهرا عدة، وربما لا يوافق عليه مجلس الشيوخ الفرنسي أو يتراجع ساركوزي عن رأيه فيرفض التوقيع عليه، وإن تم إقرار القانون فلن يكون لأي مؤرخ أو باحث أو أكاديمي أو كاتب صحافي أو حتى مواطن عادي أن يشكك في الرواية الأرمنية وإلا فمصيره السجن مع دفع الغرامة المالية، مهما كان رأيه مبنيا على بحوث ودراسات علمية ووثائق تاريخية. المؤرخون والباحثون تحدثوا كثيرا عن الأحداث التي جرت في أواخر عهد الدولة العثمانية وما تعرض له الأرمن في الأناضول؛ فمنهم من وصفها ب""الإبادة""، ومنهم من رأى أنها حرب أهلية ووقائع مؤلمة راح ضحيتها آلاف من البشر من كلا الطرفين، الأرمن والرعايا المسلمين من الأتراك والأكراد، بينما ذهب آخرون إلى أن ما حدث في تلك الحقبة من التاريخ خيانة الثوار الأرمن للدولة العثمانية وتحالفهم مع الروس، كما قال الزعيم الوطني المصري مصطفى كامل باشا. ليس قصدي أن أناقش هنا حقيقة المزاعم ومدى صحتها؛ لأن الموضوع يحتاج إلى التفصيل بالأدلة والوثائق ورسم الخلفية التاريخية للأحداث حتى تتضح الصورة بأكملها، وهذا ما يفوق حجم مثل هذا المقال، وإنما أحب أن ألفت النظر إلى الازدواجية المشينة والكيل بمكيالين في التعامل مع قضية حرية التعبير والتضييق عليها. لو كانت دولة عربية أو إسلامية سنّت قانونا يعاقب كل من يؤمن بنظرية داروين ويشكك في بدء الخلق لقامت الدول الغربية ولم تقعد، وتحدثت منظمات حقوق الإنسان عن التضييق على الحريات في تلك الدولة. فهل سنسمع الموقف نفسه من فرنسا ومشروع القانون الذي وافق عليه مجلس النواب الفرنسي؟ لا أعتقد ذلك. وما زلنا نذكر الرسوم الكاريكاتورية المسيئة إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وتأييد الحكومات الأوروبية نشرها بحجة حرية التعبير. تاريخ فرنسا مكتوب بدماء الأبرياء التي سفكها الاستعمار الفرنسي في الجزائر ورواندا وأماكن شتى في العالم؛ فالدور القذر الذي لعبته فرنسا في عمليات إبادة تعرض لها 800 ألف شخص في رواندا عام 1994 ليس ببعيد، كما أن المجازر والمذابح الجماعية التي ارتكبها الجيش الفرنسي في الجزائر ستبقى وصمة عار في جبين فرنسا لا يمكن إزالتها مهما مضى عليها الزمن. التاريخ يكتبه المؤرخون؛ فمهما اختلفوا في قراءة أحداثه وتفسيرها فهذا من اختصاصاتهم، وليس من شؤون البرلمانات كتابة التاريخ أو الحكم على أحداثه. ولكل إنسان كامل الحرية في أن يقتنع بأي قراءة تاريخية يراها صحيحة. والقوانين التي تصدرها البرلمانات في مثل هذه القضايا لا تتعدى كونها مواقف سياسية. ولو قام البرلمان الإيراني- على سبيل المثال- بسن قانون يعتبر ما جرى في البحرين إبادة بحق الطائفة الشيعية ويعاقب إنكار ذلك أو التشكيك فيه فهل سنعتبره حقيقة تاريخية؟ كلا! ورقة ""إبادة الأرمن"" من الأوراق التي تلعب بها حكومات الدول الغربية بين الفينة والأخرى للضغط على الحكومة التركية والمساومة معها على قضية معينة، أو لإرضاء اللوبي الأرمني لحسابات انتخابية، إلا أن الأزمة الأخيرة بين تركيا وفرنسا أعمق من ذلك، ويبدو أن فرنسا منزعجة من صعود الدور التركي الذي أصبح يهدد مصالحها في الشرق الأوسط وإفريقيا، ومن تعزيز الحضور التركي في القارة السمراء من خلال فتح أكثر من 17 سفارة جديدة في بلدان إفريقية في السنوات العشر الأخيرة، إضافة إلى تطوير المبادلات التجارية والعلاقات الثقافية، والشركات والمدارس والمؤسسات الخيرية التركية المنتشرة على طول القارة وعرضها، وفي الدول التي كانت مستعمرات فرنسا. ومن المعروف أيضا أن الرئيس الفرنسي من أشد المعارضين لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي ويرفض إدخال أكثر من 70 مليون مسلم إلى الاتحاد، وفقا لما كشفت إحدى الوثائق السرية التي نشرها موقع ويكيليكس. هناك دعوات في تركيا للرد على فرنسا بخطوة مماثلة وسن قانون يعاقب إنكار إبادة الجزائريين على يد الفرنسيين، ولكني أرى أن الحكومة التركية ينبغي ألا تنزل إلى مستوى عقلية ساركوزي في التضييق على حرية التعبير. ويمكن الرد على فرنسا ببعض العقوبات الاقتصادية والسياسية؛ لأن الذي يجري إعلان موقف سياسي صريح ضد تركيا، لكن فرض فكرة معينة على المواطنين بقوة القانون، مهما كانت تلك الفكرة صحيحة وعادلة، يعد تراجعا عن سياسة الإصلاح وتعزيز الحريات. ولأن حرية التعبير إحدى أهم القيم الإنسانية فيجب ألا تحدد سقفها سلوك ساركوزي ومواقفه السخيفة.