لا أحسد مسؤولًا حكومياً على صورته الذهنية في عصر المجالس الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي الفتاكة، فالمسؤول بداية موصوم بالفساد، واستغلال المنصب، ومدان من حيث المبدأ وعليه أن يثبت العكس. وبالتأكيد فإنه لن يستطيع إثبات أنه نزيه ومستقيم ويعمل بما يرضي الله لأن هذا متعذر بحكم المجتمع عليه، فإن لجأ للقضاء لإثبات نزاهته فذلك لن يزيد حكم المجتمع إلا قسوة على اعتبار أن المسؤولين وأجهزة الحكومة متواطئة معه. تلك خطيئة كبيرة نقترفها في حق أبرياء وفي حق الوطن، وإذا كان ينظر إلى معظم مسؤولي الدولة أنهم فاسدون فمن هو النزيه؟ وإذا كان من يتصدى لتوزيع هذه التهم في الإعلام والمجالس ومواقع التواصل الاجتماعي هو عامل في الدولة أو مواطن لها فإنه بذلك قد يكون في غده مسؤولا فكيف سيرى نفسه وفقا لما رسخ في وعي المجتمع عن المسؤول الحكومي؟ يضاف إلى ذلك أننا نعيش عصرا قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيأتي على أمتى سنوات خداعات يكذب فيها الصادق ويصدق فيها الكاذب ويؤتمن الخائن ويخون فيها الأمين وينطق فيها الرويبضة)، فالنزيه الذي أخلص في عمله بعيداً عن جماعات الضغط الجديدة وحيل التأثير في الرأي العام قد يدفع ثمن ذلك لصالح فاسد لديه القدرة على التأثير في عقلية القطيع بأراجيفه ليتحول إلى رمز من رموز النزاهة. عندما نصادر إيجابيات مؤسساتنا فإننا ننسف وطناً بأكمله بكل أسف، ولا أعتقد أنه من الحكمة ولا من مصلحة هذا الوطن على المدى البعيد رسم هذه الصورة القاتمة التي لا تستثني مسؤولا في الدولة لأننا بذلك نخلق فراغا كبيرا لابد أن يسده صالحون ونزيهون فأين هم؟ وإذا كانوا هناك فلماذا لم يستقطبوا؟ وإذا استقطبوا لتسلم المسؤولية فمن يضمن لنا أن هذه الصورة الذهنية لن تنسحب عليهم؟ لدينا عدة أجهزة رقابية منها هيئة الرقابة والتحقيق وديوان المراقبة العامة وهيئة مكافحة الفساد والمباحث الإدارية. وفي زعمي أن نصف هذه المؤسسات كفيل بالحد من أي تجاوزات إدارية، ووضعها في نصابها الصحيح دون تأكيد هذه السمعة السيئة لأجهزة الدولة. إذا توقفنا عند أحدث هذه المؤسسات وهي هيئة مكافحة الفساد فإن المعاني حبلى بالأسئلة عن المقصود بالفساد، ومن يمارس الفساد؟ وما إذا كان ذلك حصرا على موظفي الدولة؟ وكم يمثل موظفو الدولة من قوة العمل في البلد؟ وهل يمكن أن يكون هناك فاسد إذا لم يكن هناك بيئة محفزة على الفساد، ومفسد يريد أن يتجاوز النظام باصطياد ضعاف النفوس؟ وما هي أسباب الفساد؟ هيئة مكافحة الفساد فكرة لا تفتقر إلى المبررات لأن هناك فسادا وهذا لا ينكره عاقل ولكن أليس الأولى تعزيز القيم الإيجابية حتى تندحر الممارسات السلبية؟ فإذا عززنا قيم النزاهة في المجتمع على اعتبار أن الموظف ابن مجتمعه فإننا بذلك نحارب الفساد بشكل أكثر فعالية، أما إذا افترضنا أن مؤسسات الدولة غارقة في الفساد ولابد من مكافحته فإننا بذلك نصنف الممارسة إلى مسؤولين فاسدين وهيئة تكافح فسادهم، وهذا تصنيف غير صحي ويتطلب الكثير من التروي لأن الغاية التي يسعى إليها الجميع هي الضرب بيد من حديد على يد المفسدين سواء من مؤسسات الدولة أو القطاع الخاص أو المجتمع بعمومه. التوجيه الرباني قدّم في قوله تعالى: (ولتكُن مِنكُم أُمّة يَدعُونَ إلى الخَيرِ ويَأمُرُونَ بِالمعرُوفِ وَيَنهونَ عَنِ المنكَرِ وأُولئك هُمُ المفلحِونَ) الأمر بالمعروف على النهي عن المنكر لأن ذلك أدعى أن يتصدر تعزيز قيم النزاهة أساليب مكافحة الفساد لأن النتيجة المرتجاة من تعزيز قيم النزاهة أوسع وأشمل وأكثر فائدة على المجتمع بعمومه. إذا لم يحكم التفاؤل والإيجابية المجتمع فإننا لن نستطيع البناء ولا حتى مكافحة الفساد، ولن نجد مواطنا مخلصا يغامر بصحته وسمعته وحريته وشؤونه الخاصة لإدارة مؤسسات الدولة، وسيفتح المجال واسعاً للمنتفعين والوصوليين وعندها سيكون الفساد هو السمة الغالبة المألوفة وعندها لن نحتاج إلى هيئة لمكافحته..