قبل مغادرتي لرئاسة تحرير عكاظ ببضعة أيام.. زارني "عمار هيثم بوقس" يطلب عملاً في الصحيفة.. ويومها وقفت "تعظيماً" لهذا الشاب الكبير بقوة إرادته.. وإصراره.. وتصميمه على أن يؤكد وجوده ويثبت أنه قادر ليس على العمل فحسب وإنما على الإبداع فيه أيضاً. كان "عمار" يرقد في كرسيه المتحرك بمساعدة مرافقه.. وكان مغطى الجسم بحكم إعاقته ولا يظهر أمامي إلا رأسه.. وقد انطلق من عينيه سر عزيمته.. وقوة إيمانه بالله (أولاً) ثم بقدراته العقلية (ثانياً) قلت له : يا عمار.. أنت قصة كفاح رائعة بمواجهة الإعاقة.. واختفاء الأطراف.. وغياب القدرة على الحركة.. وهذا وحده يكفي للاعتزاز والترحيب بك وبتحقيق رغبتك في العمل .. نظر إلى "عمار" وقال - بكل ثقة - قد تتساءل عن العمل الذي أريده.. وعن الكيفية التي أستطيع أن أؤدي عملي بها في الصحيفة.. ولذلك فإنني جاهز الآن لإطلاعك على بعض كتاباتي.. فأنا أستخدم "اللابتوب" بإجادة فائقة.. وأعتز بأنني أكتب مقالاتي.. أو أعمالي الصحفية "بقدمي".. وهذه نماذج منها: نظرت إلى مقالاته.. وازددت إعجاباً به.. وبقدرته المتميزة في التعامل مع التقنية الحديثة.. وبجودة أفكاره وملامستها لحياة الناس.. وضعت يدي على رأسه.. وقلت له: "أنت مدهش يا عمار..فما أراه فيك من تصميم وعزيمة.. وما اطلعت عليه من مقالات أكد لي أنك تملك حساً إعلامياً متميزاً.. قال وقد افترت شفتاه بابتسامة رضا نظيفة.. أنا إعلامي بحكم دراستي في قسم الإعلام بجامعة الملك عبدالعزيز بجده.. وإن كنت إعلامياً بالوراثة أيضاً بحكم أنني حفيد "عبدالله بوقس" ليس المربي الجليل ووكيل وزارة الحج والأوقاف الأسبق فقط.. وإنما الرجل المثقف أيضاً.. واليوم أقف أمامك لأقول إن صحافتنا تحتاج إلى "فكر جديد" لأن العملية الإعلامية أكبر من أن تكون وظيفة.. وممارسة تقليدية.. هزني هذا الكلام بقوة .. وضاعف إعجابي بعمار.. وقلت بيني وبين نفسي "سبحان الله العظيم الذي لا يحرم إنساناً من شيء إلا ويمنحه أشياء كثيرة.. وذلك هي حال عمار.. رحبت به بشدة.. وقلت له تستطيع يا عمار أن تباشر العمل فوراً في أي قسم من أقسام الجريدة.. وإذا أردت أن يكون العمل بمكتبي فإن ذلك سوف يسعدني. نظر إلىّ عمار باستغراب وقال بإصرار : لقد جئتك من أجل أن أعمل "ميدانياً" وليس من أجل أن أتوسد مخدة.. وأجلس على مكتب..(!) أذهلني "عمار" من جديد.. فصفقت له بحرارة.. وقلت بيني وبين نفسي.. أين نحن من عشرات الشباب من الإعلاميين الذين يقتعدون كراسيهم .. ويجلسون في غرفهم.. ويستخدمون هواتفهم الجوالة (فقط) في ممارسة المهنة.. والتواصل مع الناس.. أين هؤلاء الشباب من "عمار" الذي يطالب بالعمل من الميدان رغم ظروفه الصحية الخاصة..؟ وتمنيت ساعتها لو أن كل من يعملون معي أو في أي مكان من وسائل الإعلام أن يسمعوا عمارا.. وأن يقفوا على نمط تفكيره.. ومدى نضجه.. وقوة حاسته الإعلامية.. وتوقعت له مستقبلاً إعلامياً عريضاً.. كنت أتحدث معه.. وأنا أعرف بيني وبين نفسي أنني لن أسعد بالعمل معه في المرحلة القادمة بعد أن اتخذت قراري بمغادرة الصحيفة لكنني كنت متأكداً بأنه سيكون إضافة إعلامية حقيقية.. ولا أدري لماذا لم يلتحق بنا في عكاظ بعد ذلك. فقد وجدته بعد فترة من الزمن متألقاً في جريدة المدينة سواء من خلال كتاباته الرياضية وقدرته على التحليل المتميز.. وإلمامه بالأنظمة والقوانين المحلية والدولية أو من خلال كتاباته ونشاطاته الصحفية الأخرى التي قدم ويقدم نفسه فيها بكفاءة عالية.. وكم أتمنى أن تلتفت له "جائزة التميز بمكة المكرمة" التي يشرف عليها سمو الأمير خالد الفيصل.. وأن يهتم به الوطن ويُكرمه على نحو واسع وأكبر.. فهو نموذج نادر للشباب المؤمن بالله رباً.. وبرسالته في هذا الكون عنصراً فعالاً.. وبإرادته القوية على إثبات وجوده أخيراً.. فهو يستحق التكريم.. لأنه يعتبر قدوة لشباب يُتهم بالإهمال واللامبالاة وبالعجز التام وعدم الإحساس بالمسؤولية.. لكن "عمارا" يؤكد عكس كل هذا.،، *** ضمير مستتر ( لا شيء يقف أمام إرادة الكبار.. وتصميمهم الفذ..).