لا يمكن الحديث عن هم النهوض الثقافي في المجتمعات الخليجية، دون المرور على شخصية ثقافية خليجية ذات تجربة طويلة في العمل الثقافي والإبداعي الخليجي.. إنه الروائي والكاتب القطري الدكتور أحمد عبد الملك، والذي زار مدينة الدمام أخيرا، للمشاركة في أحد الملتقيات الثقافية.. ولأن الدكتور عبد الملك مسكون بهاجس التغيير والتحديث الثقافي في بلدان الخليج العربي وهو أيضا مراقب من الداخل لتطور الحراك الثقافي الفردي والمؤسسي في دول مجلس التعاون، فهو بلاشك قادر على تقديم أحكام تتسم بالدقة والمعرفة العلمية، يكفي أن نعرف أنه صاحب رواية (فازع) القلقة والمتخوفة من مستقبل الحياة في مدن الخليج العربي؛ من هنا تأتي أهمية الحديث عن الهاجس الثقافي مع الدكتور عبد الملك: - الثقافة كائن منفلت من حيث المبدأ، ولكن من جهة أخرى يعول مثقفون خليجيون على المؤسسات الثقافية ووزارات الثقافة في أن تنهض بالمشهد الثقافي. كيف تنظر لهذه المسألة؟ نحن نعاني معاناة كبيرة من عدم الانتشار = كما أشرت متفضلا وأعتقد أيضا، أن العمل الثقافي فضاء واسع وحر ومتى ما قامت المؤسسات الرسمية على تنظيم هذا العمل، فهذا يعني أننا فرضنا عليها قيودا محددة وهذه القيود بلا شك تحد من انطلاقة الكلمة وتصب نهايةً في قوالب المديح والتمجيد دون وجه حق، في الوقت الذي تفقد الكلمة مصداقيتها وأهميتها فيما يتعلق بمناقشة قضايا المجتمع الأساسية. إلى جانب أنك ترى أن المشهد الثقافي نفسه يتم تشويهه عبر مثقفي (السلطة) المؤسسة، وبالتالي يُحدث هذا الأمر صورةً نمطيةً مستقرة لواقع الثقافة وإذا ما جاء آخرون برأي حديثٍ وتوجه جديدٍ فلن يقبل رأيهم لأن الصورة النمطية تكرست بفعل هؤلاء المثقفين. وللأسف خلق لدينا في الخليج ما سمي بالإعلام التنموي أو الثقافة التنموية وهذا المصطلح؛ الحقيقة ابتلينا فيه وللأسف لا زالت آثاره موجودة. فإلى اليوم تستخدم نفس القوالب والكليشيهات الرسمية تردد في الإعلام المرئي والمسموع والمقروء؛ وكل هذا يحدث نتيجة التقليدية في الأداء، وهو ما سبب أن أي محاولة جديدة تنعت بأنها خروج عن المألوف وبالتالي فإن هذا الشخص هو مشاكس. - بمعنى أن ثمة استقرارا في الوعي بأن الثقافة هي: وزارة الثقافة؟ = بالضبط. صحيحٌ أن الثقافة تحتاج دعما ومالا، وللأسف المال الخاص لا يستثمر في الثقافة لأن الثقافة مكلفة، وبالتالي أنت ليس لديك ملجأ غير الدولة وإذا ذهبت إلى الدولة فعليك الالتزام بالآلية البيروقراطية وأن تضع على قلمك ألف رقيب ورقيب قبل أن تكتب الكلمة. حذري وتوجسي من الاتجاهات الرسمية للثقافة وهذه التي تحد من الخيال والإبداع. - كيف ترى أداء وزارات الثقافة الخليجية في العشرين سنة الأخيرة؟ = للأسف وزارات الثقافة في الخليج تُلحق بوزارات الإعلام، ويتم الاهتمام بالإعلام أكثر من الثقافة وأحيانا تلحق بوزارة التربية والتعليم كذلك وتجد بأن جل الميزانيات التي تخصص لهذه الوزارة (الثقافة) تذهب للوزارة الأم (الإعلام أو التعليم) لذا يظل الاهتمام بالثقافة ضئيلا. نحن لا ننكر؛ لربما دشنت هناك بعض المنشآت أو البنى التحتية الثقافية كما في الكويت وفي قطر (الحي الثقافي) أو أبوظبي أيضا (مشروع قلم) ودبي (مشروع كتاب). لا نستطيع أن نكون سوداويين ولكن حذري وتوجسي من الاتجاهات الرسمية للثقافة وهذه التي تحد من الخيال والإبداع وتجلعنا نصدر مطبوعات مصقولة وملونة ولكن في النهاية توزع ولا يقرؤها أحد. - ما رأيك بحمى الجوائز المتزايدة في الخليج؟ = أنظر. هنالك جوائز لها أهداف سامية وأنا لي اطلاع على هذا الأمر كوني عضواً في جائزة الصحافة العربية. فعندما نشجع صحفيا ناشئا من الجزائر ويفوز بمبلغ خمسة عشر ألف دولار عن مقال أو تحقيق جيد أو تكرم شخصية عربية لها باع في الصحافة هذا أمر إيجابي. وأيضا على مستوى المهرجانات؛ لدينا مهرجان الخليج للإنتاج للإذاعي والتلفزيوني. أيضا هذا يساهم في زيادة جودة المنتج وحرص القائمين على الإعلام في أن يحصلوا على جوائز رغم تحفظ كثير من الإخوان المبدعين والفنانين في الخليج على مسألة أن بعض الجوائز تكون للترضية وهذه وجهة نظر وأنا لا أستطيع الإيمان فيها في هذه الجزئية. وهنالك بعض الشخصيات الخليجية تجدها مهتمة بالشعر كجائزة البابطين، التي تكرم وتعطي جوائز وكذلك مؤسسة الماجد والعويس في الإمارات أيضا هؤلاء لا يحاولون الاستثمار في الثقافة وإنما يقومون بالصرف على الثقافة وأنا لست ضد هذا أبدا، ولكن تغيير الوجوه من الأمور المهمة في مسألة منح الجوائز!. - ألا تلاحظ معي أن هناك هما ثقافيا أولى وهو الشارع.. المجتمع الخليجي البعيد عن الثقافة ضمن الحياة الاستهلاكية المتنامية؟ = أقول لك لماذا. وأنا عاصرت هذا الأمر، أنظر، وزارات الثقافة في الخليج وبناء على الانفتاح الجديد، بدأت تستورد الثقافات في الخارج وهذه ظاهرة موجودة في كثير من عواصم الخليج، وهذه المنتجات (الثقافية العالمية) التي جاءت بها وزارات الثقافة مفصولة عن المجتمع لأنها لا تعني له شيئا، فأنا مجتمعي بالكاد أريده أن يحضر مسرحية لغانم السليطي، كيف أدعوه لعرض سيمفونية "بحيرة البجع". فالمجتمع لم يتعود على حضور مثل هذه العروض والإعلام لم يؤهل المجتمع ونحن عانينا هذا الأمر في الثقافة. خذ مثلا: أن تنظم ندوة عن اللغة فقط سيحضرها عشرون شخصا ولكن نظم أمسية عن الشعر الشعبي سيحضرها ألفان. أو نأتي بالمسرحية العالمية "Mamma Mia" التي تعرض في لندن منذ أحد عشر عاما، فإذا جاء وحضر العرض ثلاثة أو أربعة من التكنوقراط أو الذين يعرفون اللغة الانجليزية فهذا أمر جيد. وبالتالي لازلت أدعو لدراسة الأنماط الثقافية والفنية التي يؤتى بها من الخارج ومدى تفاعل جمهوري المحلي معها. صحيحٌ أننا نقوم بترفيه وإمتاع الجاليات ولربما هذا حقٌ لهم، ولكن السؤال الأهم كيف أنمي الذائقة الجمالية للمواطنين كذلك. - إلى أي مدى الشق الدعائي عند هذه الوزارات أثر على فاعلية الشق الثقافي؟ = " حول أنه أثر.. أجل أثر" بدليل أنك قدم كتابا إبداعيا لوزارة من الوزارات، ودع شخصا يقدم كتابا دعائيا مديحيا، سيطبع لهذا الشخص وستنسى أنت. - إذاً، لا تزال الذهنية الدعائية مسيطرة؟ = أجل، لا تزال مسيطرة؛ وكما قلت لك، فإن هذه القوالب التي وضعها مثقفو (المؤسسة) السلطة، أصبحت واقعُ حالٍ للمسار الثقافي، لذا نحن في حاجة إلى تبديل هذا لمسار. أصدرنا مطبوعات مصقولة وملونة ولكن لا يقرأها أحد. - تردد عبارة "مثقفو السلطة" من هم هؤلاء؟ = الموظفون الذين يعملون في وزارات الثقافة والإعلام. أي الموظف غير المبدع والذي ليس له علاقة بالإبداع ولا هو شاعرٌ أو فنانٌ أو تشكيلي أو مسرحي، لكنه موظف، وهذا الموظف غدا يصبح مسؤولا كبيرا، وبالتالي تساق جميع المشاريع حسب ذهنية هذا الإنسان، ومن الممكن أن اتجاهه متشددٌ وبالتالي تجده لا يؤمن بالانفتاح على سبيل المثال ويحارب أي كتاب فيه انفتاح أو فيه جرأة أو يتضمن أحد التابوهات مثل الجنس أو الدخول في السياسة. هذه إذن اشكاليتنا ودائما ما أكرر، دعوا الحكم على الأعمال الإبداعية للمبدعين وليس لموظفي وزارات الثقافة. - ملاحظٌ أن الهاجس الثقافي الذي تحدثنا عنه، والذي تطور ليصبح هاجسا إنسانيا ووجوديا، انتقل إلى أعمالك الأدبية وتحديدا رواية (فازع).. ماذا لو تحدثني عن هذه التجربة بالتحديد؟ مجتمعي بالكاد أريده أن يحضر لغانم السليطي، فكيف أدعوه لسيمفونية «بحيرة البجع» ؟! = بالطبع. انتقل هذا الهاجس تلقائيا ودون تخطيط، لأني عندما اكتب الرواية لا يكون لدي ترتيبات مسبقة عن بعض الاتجاهات، باستثناء الخطوط العريضة للرواية أو توصيفات الشخصيات الروائية. وجدت نفسي كذلك ومن نظرتي للحياة وللوجود بشكل عام، أن هذه النظرة دخلت في الروايات خصوصا، رواية (القنبلة) وبعدها رواية (فازع) وتأكد هذا المنحى في رواية (الأقنعة) التي صدرت هذا الشهر تقريبا، في بيروت. وبالتالي المسألة جاءت تلقائية وغير مخطط لها؛ و لربما تقدم العمر. - ومسألة القلق أيضا.. ربما مع التقدم في العمر والتجربة ظهر هذا القلق والنبوءة التي ظهرت في رواية؟ = بالضبط، أعتقد أن التبوؤ بشيء معين لا يأتي من فراغ، وإنما من استشعار قلقٍ معين، أو خوف من واقع معين، وهذا الواقع لربما يتبلور في النفس إلى هذا النوع من التبوؤ. - نشرت مجموعة روايات وكتب في السنوات الأخيرة.. ولكن المشكلة أنها لاتصل للقارئ. لماذا؟ = أنظر، أزمة النشر، هي أزمة عالمية وفي العالم العربي والخليج لها ظلال معينة. فالناشر أنت تذهب إليه وتدفع له قيمة الطباعة وهو يطبع لك في أكثر الأحوال ألفي نسخة ويعطيك مجموعة نسخ ولكن هو (الناشر) لا يذهب للمعارض العربية أو يتجشم عناء الإعلان أو الترويج للرواية. وبالتالي تجد أن الرواية محدودة جدا وما يعطيك الناشر من نسخ تذهب لتوزعها على أصدقائك. نحن نعاني معاناة كبيرة من عدم الانتشار. أحد الزملاء في السعودية، عاتبني أن ليس لي روايات في المكتبات السعودية. لأنه أيضا لا توجد مكتبات تقتني مثل هذه الروايات الخليجية وتعمل على تروجها داخليا. أنا آخذ كتبي إلى مكتبة جرير وبالقطعة أعطيهم بالعشرين نسخة وهكذا في مكتبة الثقافة في قطر، غير ذلك لا يوجد طريق. وهنالك وزارة الثقافة إذا اقتنت وطبعت، فهي تطبع لك ألف نسخة وتعطيك قيمتها و "مع السلامة" وإذا أصبحت هنالك مناسبة وضعوا الكتب وعرضوها. - ألم تتوقع اسمك في قائمة "البوكر".. وألا تفكر بهكذا جوائز وأنت تكتب الرواية؟ = أبداً، لم يأت لي هذا الهاجس وإنما مدير المؤسسة (البوكر) هذه السنة، أشار علي أن أتصل ببعض الجهات، "على أساس" أن تدخل روايتي (الأقنعة) ضمن البوكر ولا نزال في العملية ولا اعرف ماذا جرى، وأنا سأقابله في الشارقة بعد يومين ونرى ماذا جرى في هذا الموضوع. أما أنا فليس في بالي مسألة الجوائز. أنا اكتب أولاً، لاستمتع بالكتابة لنفسي.