في عنوان المقال شغب لفظي قادني إليه ما رأيته من بعض الإخوان الذين كتبوا حول رؤية الهلال، وسعوا جاهدين إلى التقليل من رأي الفلكيين عبر إطلاق "هواة الفلك" عليهم، فما كنت إخال حال الصراع ستصل بنا إلى هذا الدرب، الذي يكون فيه المخالف مشغولا بتقييم الإنسان، وليس بالنظر في رأيه، لقد فوجئت حين قرأت في جريدة الرياض قبل أيام حديثا مملوءا بالهجوم على الفلكيين، مرة بإسباغ وصف "هواة الفلك" عليهم، وتارة بتجهيلهم صراحة بنصوص الدين وعلم الفلك، يجري هذا والفلكيون لم يمسوا طريقة الرؤية الواردة في النص، وإنما غاية ما طالبوا به ودعوا إليه أنّ من يتراءى الهلال قد يُخطئ، وأنّ علم الفلك وسيلة حديثة ينبغي على المسلمين اليوم النظر إليها بجد حتى ينجوا من فوضى، خبرها في بلدان الإسلام يغني عن ضرب أمثلتها، وهي فوضى أحد أعمدتها الإخوان الذين يتراءون الهلال. وكثيرا ما يجنح المرء بقصد وغير قصد إلى التشويش على الرأي عبر سياقات، لا علاقة لها بالدعوى التي يجري الحديث عنها، وحسب ما خرجت به من مقال أخي الخويطر أنه وقع في هذا الأمر؛ إذ يُصوّر الفلكيين أنهم يَدْعون إلى اطّراح الرؤية والاستغناء عنها، وبنى حديثه على ذلك فأكثر من نقل النصوص، وبالغ في الأمر حتى خُيّل لمن يقرأ ما نقله أن الفلكيين يُناهضون الرؤية، ويعدّونها سبيلا غير صالح مطلقا، وهكذا رسّخ حديثه بجملته أنّ الخلاف يدور حول أيهما أولى الرؤية أم الحساب الفلكي؟ وهكذا انطلق في صفحة كاملة من الجريدة يُدندن باسم الدين وفهمه، ويستجمع كل ما خطر بباله ينقض ما ظنه رأيا للفلكيين. وكل ذلك لم يكن، فالفلكيون من إخواننا أولا لم يكن منهم رفض للرؤية حتى يسوغ لنا مواجهة رأيهم بمثل تلك النقول، إنهم يدّعون أنّ العلم الذي ينتمون إليه حتى وإن ظننا أنه ظني! يشكك في رؤية هذا الإنسان أوذاك، فنحن أمام قضية على أقل تقدير محوراها علم الفلك الظني! وأصحاب الرؤية الذي هم أحق من العلم ذي القوانين بالظن والتهمة، هكذا يحسن بنا أن ننظر إلى هذه القضية، وهكذا يجدر بنا أن نبحث عن تسوية بين عنصريها، وليس بأن نهرب في معالجة القضية عبر سياقات، لا صلة لها بها. إنّ الفلكيين يقولون: إنّ قوانين العلم الذي نحمله تشكك في حالات معينة في مَنْ يتراءى الهلال، وتشكك في قدرته، وما دام الأمر يدور بين علم وقوانينه وأفراد من البشر، فلست أظن التسوية العادلة أن نهجم على حملة علم الفلك، ونسمهم كما فعل أخونا، وإنما الطريق الشرعي أن تُسمع الدعوى منهم، وتسمع من غيرهم، ونكون نحن كالقاضي بين الخصمين، فأيهما أدلى بحجة أقوى كان له الفَلَج على أخيه؟ لكن يظهر من مقال أخينا ميله إلى من يتراءى الهلال، وذا ما جعله ينأى بهم عن النقاش والجدل، وصار جلّ همه أن يطعن بالفلكيين، مرة بالنقول حول فهم نص، لم يخطر ببالهم أن يخالفوه، وتارة بتوهين علمهم بما يبنون دعواهم عليه، فهم هواة، وما كانوا بالفلك والحساب من العلماء! وكأنه لو جاءه علماء الفلك بما يوافق رأي إخوانه سيقبل به، وينصاع إليه! إذ المشكلة عنده أن هؤلاء هُواة غير علماء، مع أنه نص بنقله على أن الرؤية عبادة في دخول الشهر وخروجه، فجاء في مقاله العنوان التالي "الأخذ بالحساب عوضا عن الرؤية هو إلغاء عبادة ومحوها وليحل بدلا عنها بدعة!" ومن يميل إلى هذا الرأي ليس من حقه أن يُوهم المخالف أنّ نقطة الخلاف في عدم تأهله بهذا العلم أوذاك، فتلك سبيل من يُشوش على صاحب الرأي بما لم يكن يؤمن به، وعنوانه هذا يؤكد ما قلته أولا من أن الخلاف عنده دائر حول اعتماد الرؤية وحدها أواعتماد الحساب وحده، وهي دعوى نسبها إلى الفلكيين، وأقام حديثه حولها، ولم يكن من رأي الفلكيين أن يلغوا الرؤية كما ظن أخونا! وإذا كان الكاتب أومأ إلى ما وجده من أخطاء الفلكيين، فقد أخطأ مرتين؛ أخطأ حين ظن أنّ أخطاءهم تحول دون النظر في دعواهم تجاه من يتراءى الهلال، وأخطأ حين جعل من سبيله إلى نفي الفلك والحساب تماما تلك الأخطاء؛ لأنه ربط بين الفلكي وأخطائه وبين نفي الفلك والحساب، وهو منطق لا يقبل الرجل به مع الرؤية؛ إذ لا يرى أن أخطاء من يتراءى الهلال ترجع باللائمة وهو محق على الرؤية نفسها، وهما أيضا قضيتان منفكتان، ففي وسع الفلكي أن يقول: قد أقررت بأخطائي! فهلّا نظرت في دعواي على مترائي الهلال؟! وإذا جاز لي أن أُلمح إلى أخطاء من يتراءى الهلال فلست أتخذها كما فعل صاحبي مع أخطاء الفلكيين، لست أتخذها دليلا في صدم الرؤية كطريقة وسبيل، وإنما أعتدّ بها حتى لا يُقدّس من يتراءى الهلال، ويُربط بينه وبين الرؤية، فيكون نقده والإزراء عليه نقدا لها على حين لم تكن تلك الأخطاء سوى سبب إلى وضع هؤلاء الذين يتراءون الهلال في الموضع الذي يليق بهم كبشر، يُخطئون ويصيبون، هذه الأخطاء التي سأذكر لكم شيئا منها لا علاقة لها بالرؤية، إنها تتصل بالإنسان الذي يقوم بالرؤية، فهو الذي يُعارض الحساب والفلك وليست الرؤية. إنّ كل بلد إسلامي فيه من يتراءى الهلال، فالذين يتراءون الهلال كثيرون، وإذا نظرت إليهم من حيث الجملة وجدت الخلاف بينهم بيّناً، مما يجعلك تتيقن أنّ تلك السنة كان فيها خطأ في الرؤية عند أحد هؤلاء، ومن ذلك ما وقع في رمضان عام ألف وأربعمائة وسبعة وعشرين إذ أعلنت دولتنا والكويت وقطر والإمارات واليمن وفلسطين ولبنان وغيرها من البلاد الإسلامية أن العيد يوم الاثنين، بينما كان هذا اليوم صياما في الأردن ومصر وسوريا والمغرب! وتشتد المفارقة في الاختلاف بين فلسطين ولبنان وبين الأردن وسوريا والمغرب! ومثل ذا ما حدث عام ألف وأربعمائة وتسعة فقد ثبت دخول رمضان يوم الخميس في بلدنا والكويت وقطر والبحرين وتونس وغيرها، وفي مصر والأردن والعراق والجزائر والمغرب كان دخوله يوم الجمعة! ويُستغرب الخلاف بين تونس وبين الجزائر والمغرب، أفهذا بسبب الرؤية أم بسبب من يتراءى الهلال؟! إنّ هذا الاختلاف بين دول يُظن بها ألا تختلف في الرؤية مرجعه إلى من يتراءى الهلال هنا وهناك. وإذا كان هذا التباين يصب في مصلحة الفلكيين فإنّ العلماء الذين سعى الكاتب أن يضرب بهم رأي الفلكيين قد ذهبوا إلى ما يضرب رأيه، ويشغب عليه، وكان ذلك من جهتين؛ أُولاهما أن العلماء في العصر الحديث قرروا الأخذ بعلم الفلك والحساب في النفي، وثانيتهما أن العلماء في هذا العصر حين ذهبوا إلى ما ذهبوا إليه قد أقروا مرة أخرى بمراعاة هذا العلم، وهو يذكر في مقاله أنّ المتقدمين لم يلتفتوا إليه مع شهرته!، والمعنى الذي أقصد إليه أن العلماء الذين يتكئ عليهم قد اختلفوا قديما وحديثا، ففي حين رفض المتقدمون هذا العلم حسب قوله رضي به المعاصرون اليوم، ولو جزئيا، وبهذا وضعوا بدعة كما يظن محل سنة! ومما يقلق رأي أخينا مرة أخرى أنّ مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في عاصمة الأردن عام ألف وسبعمائة وسبعة قد قرر أنه متى ثبتت الرؤية في بلد وجب على المسلمين الالتزام بها، ولا عبرة باختلاف المطالع، وهذا القرار يتضمن قطعا عدم العمل بالرؤية في بعض هذه البلدان التي رأينا شيئا من اختلافها قبل قليل، وحينئذ فهو مشكل على مثله ممَنْ يذهب إلى أن الرؤية عبادة! إذ اختلافها بين البلدان يُوجب على رأيه أن يتعبد بها أهل كل بلد، فلا يقوم أحد مقام أحد في العبادات!! ومما يُشكل أيضا على القول بأن الرؤية عبادة، وهو شيء ينتصر به الفلكيون على أمثال أخينا، أن العلماء المعاصرين لهم في الأخذ بالحساب ثلاثة أقوال؛ أحدها القول بوجوب الأخذ بالحساب الفلكي، وثانيها الأخذ به في النفي لا الإثبات، فهذان قولان للعلماء المعاصرين كلاهما يؤكد الأخذ بالحساب، وإن اختلف الرأيان، فهل خفي على هؤلاء العلماء موقف المتقدمين؟ بل هل خفي على هؤلاء أن الرسول عليه الصلاة والسلام ذكر الدجال كما يقول الباحث وترك الحساب؟ وقبل أن تتوقف جمل القلم وعباراته فأنا على يقين أنْ ستبقى قضية الهلال عيدية لنا كل عام، ما دامت ثقافتنا اليوم للأسف تجيد فن الهروب عبر بوابات الصخب على العقل، وتعزو صخبها ذلك إلى النص والتأريخ!! إنه الجور على النص والتأريخ حين يكون الإنسان مغلول العقل، يميل إلى التسليم، ويُروّج له على أنه الدين في زمن تتداعى المجتمعات إلى الحوار والجدل اللذين يقودان العقل إلى باحة التساؤل التي بها يضع المسلم المعاصر طبعته الجديدة بين الطبعات.