مع الانهيار الأخير لأسواق المال العالمية، وانتشار حالة من الهلع، ردد كثير من المحللين الغربيين: «كل شيء تغيّر فجأة».. ولم تكد الأسواق تتعافى نسبياً حتى ظهرت مشكلة ديون اليونان منذرة بكارثة تصيب القارة العجوز لقرب اشتعال النيران في اسبانيا وايطاليا والبرتغال بسبب ضخامة الديون مقارنة بالناتج المحلي لكل دولة من تلك الدول.. ومرة أخرى عادت عبارة (كل شيء تغيّر فجأة) للظهور إذ سقطت السوق الأمريكية سقوطاً حراً بلغ ألف نقطة في أقل من نصف ساعة قبل أن يرتد.. وبما أن أسواق الأسهم لا تعدو أن تكون مرايا تعكس الأوضاع الاقتصادية الحقيقية لدولها وللعالم ككل، بل وتبالغ كمرايا الحلاقة التي تريك شعرة لا تراها في المرايا العادية، فإنه (لم يتغير كل شيء فجأة) كما يردد بعض المحللين مبسطين المسألة، فحين يؤلم أحدنا ضرسه فجأة ألماً شديداً، وقد يحدث هذا وهو نائم وضرسه لا يؤلم فيوقظه على ألم عنيف، فإن ذلك لم يحدث فجأة، بل كان هناك (سوس) ينخر منذ زمن وبهدوء وعلى مهل حتى وصل للجذر (العصب) عندها ثار الألم كالنار.. ما حدث في أسواق الأسهم العالمية خاصة، وفي الاقتصاد الحقيقي عامة، لم يحدث فجأة، وإنما كان عميق الأسباب يعود لكثرة الديون على الدول والأفراد، وبخاصة الولاياتالمتحدةالأمريكية (رأس القطار في الاقتصاد العالمي) فالشعب الأمريكي مدين بشكل مهول، وحكومته أيضاً، والتساهل بالديون صار ظاهرة عالمية فالأغلبية تشتري كل شيء بالدين (بالتقسيط، وكأن التقسيط بالمجان) والمصارف تشجع على هذا السلوك غير الرشيد طمعاً في المزيد من الأرباح، وكانت السلع ترتفع مع الطلب المصطنع (فالقروض تخلق الطلب المصطنع) يضاف إلى هذا انعدام الرقابة على البنوك الاستثمارية في أمريكا وبعض الدول، بل ان البنوك التجارية كانت الرقابة عليها محدودة جداً، وهكذا نخرت (الديون) أضراس الاقتصاد العالمي بالتدريج مستغلة التساهل والاهمال، حتى وصل (الألم) العنيف لعصب الاقتصاد فانبرى اطباؤه لمحاولة العلاج بالمسكنات مع أن سبب الألم الحقيقي وهو (سوس الديون المبالغ فيها) لم يتم علاجه، بالعكس فتح الطريق أمام المزيد من السوس والمزيد من المسكنات.