يرد في تحليلات بعض الكتاب الغربيين عن أزمة الاقتصاد العالمي عبارة (كُلُّ شيء تغيّر فجأة) في إشارة إلى انهيار كثير من المصارف والشركات وحدوث أزمة الائتمان وحصول الانكماش الاقتصادي وتسارع أشباح البطالة وصراع المؤسسات الكبيرة قبل الصغيرة من أجل البقاء، وتداعي الأمم لمواجهة الأزمة العنيفة التي حدثت فجأة كما يزعمون.. والواقع أنه لاشيء يتغير بهذا الميل الحاد العنيف فجأة، بين يوم وليلة، فما حصل له جذور بعيدة المدى، وكان كالسوس الذي ينخر أسنان الاقتصاد العالمي منذ سنوات حتى وصل إلى العصب فصرخ العالم من الألم، ربما فوجئ كثيرون من شدة الألم وانتشاره في جميع أسنان الاقتصاد العالمي وأعصابه وشرايينه ولكن مسببات ذلك الألم الحاد كانت موجودة من أكثر من عشرين سنة تنخر في جسد الاقتصاد العالمي ببطء ومثابرة ولا يحس الجسد بالألم الفظيع حتى يصل النخر إلى العصب والقلب.. والسوس الذي كان - ولا يزال مع الأسف - ينخر أسنان الاقتصاد العالمي يتمثل أولاً في زيادة الاستهلاك على الإنتاج بأضعاف، وخاصة في المجتمع الأمريكي الذي اعتاد على البذخ والرفاه معتمداً على القروض والمزيد من القروض وطبع النقود وتدوير العجز التجاري وتقويم المشكلة وتأخيرها ثم ضمان القروض بقروض أخرى كمن يغسل الدم بالدم.. إن المجتمع الغربي - أمريكا أولاً وأوروبا ثانياً - الرواتب فيه عالية، والقروض طاغية والإسراف على حساب المستقبل هو السائد بعكس الصين مثلاً حيث الأجور متدنية بالإنفاق أقل من الاستهلاك.. مجتمعنا الخليجي ونحن السعوديون أشبه ما نكون في سلوكنا المسرف بالأمريكان نصرف بغير حساب ونقترض ونبدل منازلنا وسياراتنا بلا سبب ونسافر ببذخ وقلّ فينا من يدخر ويحسب حساب المستقبل، وقلّ منا الذي ينتج أكثر مما يستهلك، والذي يصرف على قدره، فضلاً عن الذين يقترضون - مجمعين - المليارات لتذهب هباءً منثوراً في تغيير مفروشات واستبدال سيارات صالحة أخرى.. جخ وأسفار مكرورة.. وعشق مموج للمظاهر على حساب المستقبل والجوهر.. ليست المشكلة في تهاوي أسواق الأسهم في العالم وفقدان الثقة وتراجع الاقتصاديات، فهذه أعراض أما المشكلة الحقيقية فهي زيادة الاستهلاك على الإنتاج، وغلبة التبذير على التدبير، وانفتاح الشهية المرضي على القروض والديون، وما لم يتعدل هذا السلوك والمرضي على مستوى الأفراد والمجتمعات والشركات والأعمال فإن أي علاج آخر إنما هو مسكنات مؤقتة لا تنفع ولا تعالج أصل المرض.