لا يقف تأثير عدم الالتزام الأخلاقي على الأفراد فحسب بل ينسحب كذلك على الأمم، لتكون الأخلاق مؤشراً على رقي الأمم وتقدمها او العكس. فمهما بلغت أمة من القوة ما يشبع الغريزة في التفوق في جانب معين بمعزل عن الأخلاق فإنها ضعيفة، لأن غياب الأخلاق سيؤدي بها لا محالة إلى انتفاء الأطر المؤسسة للاستمرار لتزول وتذهب. فكم من أمم هلكت لا لضعف في قدرتها ومقدراتها بقدر ما فقدت حنكتها وحكمتها في المحافظة على أسس البقاء، وبالتالي زوالها من أرض الواقع وبقاؤها في التاريخ نقطة سوداء وعبرة لمن يغره الورم والانتفاخ بينما هو في واقع الأمر استدراج للسقوط. وتتبلور أخلاق الأمم وتتشكل بسلوك أفرادها، حينها يتم القياس بالأغلبية لأن الأقلية تندرج في نطاق الشاذ والشاذ لا حكم له. من هنا تحرص الأمم اشد الحرص على بناء الأخلاق، معتبرة من تجارب الأمم السابقة، ووفقاً لمعطيات تتسق مع قيمها ومبادئها، وبذلك تحتضن وتحتوي أفرادها بترسيخ هذه الأسس وتشكل لهذا الأمر ميزانيات تختص بالتربية ما يفوق التسليح بهذا المضمار مدركة مغبة التساهل أو التفريط في هذا الجانب. الأديان السماوية تحث على السلوك النبيل واحترام الذات البشرية التي خلقها المولى سبحانه في احسن تقويم، ويندرج في هذا الإطار نبذ الاحتقار واحترام كرامة الإنسان بدون تمييز مقيت أو استعلاء تعيس، وأهم من هذا وذاك صفاء النية وانعكاس ذلك على التوجه الخلاّق نحو بناء علاقات يسودها الاحترام وتعاون يجسده الإخلاص. وحين تقع الملمات في جزء من هذه المعمورة، فإنك بلا ريب تجد العاطفة الخيِّرة والنبل في المشاعر متجسداً في سرعة مد يد العون والمساعدة لهذا البلد أو ذاك بغض النظر عن ماهية العلاقة. وهذا الشعور النبيل بلا ريب يكرس الألفة من ناحية ويسمو بالمشاعر نحو آفاق الفكر السليم، حينئذٍ فإن الحضارة الإنسانية ستبرز وجهها الوضاء، وسيرسم التاريخ ألواناً مشرقةً لمن حرصوا على إعمار الأرض لا دمارها، وإسعاد الإنسان لا تعاسته، فباتت الروح المتألقة المفعمة بالنبل معلماً بارزاً ينبئ في المقام الأول عن إدراك واسع ورؤية ثاقبة وإعداد العدة الحسنة السليمة. وتمثل الأخلاق أساساً رئيساً في تقدم الأمم ورقيها، والأخلاق تنحصر بين أمرين لا ثالث لهما السيئ والحسن، أي أنها لا تحمل خيوطاً بينهما، فإما حسن الخلق أو سوء الخلق، ويرتبط بحسن الخلق بلا ريب الخير، ويرتبط بسوء الخلق الشر، فكانت الأخلاق الرفيعة نتاجاً لفكر متعقل يتقد إشراقاً. ومما لا شك فيه أن العلاقات بين الأمم تُبنى على هذا الأساس، ويندرج في نطاق الأخلاق احترام العهود والمواثيق، والوفاء بالعقود، وعدم فرض قناعات معينة ولو على سبيل التأثير. الإقناع والاقتناع امر مهم في سياق الارتفاع بالمستوى الأخلاقي، فالأبيض لا يمكن أن تراه رمادياً، أو توحي بأنه كذلك لمن يسمعك إن رغبت في ذلك، فإذا كانت الألوان واضحة فإن القيم كذلك فمن لا يرغب بالطمأنينة مكابر، ومن لا يرغب بالسكينة مغامر في سباق خاسر. ولاريب أن الفساد واستشراءه يعد عنصراً مهماً ومؤشراً للتخلي عن المستوى الأخلاقي الذي بدوره يؤسس لتحقيق الإنصاف في ضوء العدل في الأسس الملزمة بالتطبيق ومحاربة الفساد بكل السبل والوسائل لتستقيم الصيغة المؤطرة لعزة الأمم ورقيها، في حين ان الروابط الإنسانية الخيرة متى ماتحققت لها البيئة الحاضنة فإنها ستؤتي اكلها في سعادة البشر واعمار الأرض. وسأختم حديثي بأبيات لشاعر عربي هو عويف القوافي الفزاري، ويصور الشاعر موقفاً إنسانياً كريماً يدور حول تعرض أحد أعدائه لمحنة وإحساسه بالعطف عليه والإخلاص له ونصحه بالرغم من العداوة التي تزول وقت الشدة وسيادة الروابط الإنسانية فهو يصور أرقه وحزنه عند بلوغه خبر الكارثة وسجن عدوه وانطلاقه لمساعدته بمجرد سماعه الخبر يقول الشاعر: ذهب الرقاد فما يحس رقاد مما شجاك ونامت العواد خبر أتاني عن عيينة موجع كادت عليه تصدع الأكباد بلغ النفوس بلاؤه فكأننا موتى وفينا الروح والأجساد يرجون عثرة جدنا ولو أنهم لايدفعون بنا المكاره بادوا لما أتاني عن عيينه أنه أمسى عليه تظاهر الأقياد نخلت له نفسي النصيحة أنه عند الشدائد تذهب الأحقاد