حالة من الوجوم والحزن العميق تخيم على القلوب بعد الفاجعة الكبيرة برحيل صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز آل سعود ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع والطيران والمفتش العام سلطان.. الخير الذي انتقل محفوفاً بدعوات محبيه في شتى الأصقاع.. طاوياً بذلك صفحات ناصعة من العطاء الخيري اللامحدود من أعمال البر وعون المحتاجين ومسح دموع الأرامل والثكالى ورعايته لليتامى والإحسان إلى الفقراء وأهل الحاجة المعوزين وتقديم العون للمؤسسات الصحية والتعليمية والخيرية التي استفاد منها كثير من الناس. «الرياض» تستعرض رحلة علاج سموه، ومشاعر الحب والوفاء التي كانت ترافقه من الجميع. وقال رفيق رحلته صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض، رمز الوفاء الذي صحب سمو ولي العهد في تلك الرحلة التاريخية (ليس من اليسير الحديث عن سيدي صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز، فالإنسان مهما بلغ من القرب من سموه فلن يحيط بجوانب حياته المتعددة والمتشعبة سواء منها جهوده في خدمة هذا البلد العزيز،أو ما يقدمه في مجالات الخير المختلفة المعلن منه والخفي حتى استحق عن جدارة لقب سلطان الخير). ويمضي سمو الأمير سلمان في حديثه كاشفاً أبعادا إنسانية شفافة لمسها عن قرب في أخيه واصفاً هذا الجانب وملقياً الضوء على الجوانب الشخصية والقيادية الأخرى في شخص سمو ولي العهد قائلاً: (وخلال الأشهر الماضية كان لي شرف مرافقة سموه الكريم أثناء رحلته العلاجية التي امتدت لأكثر من عام، فما رأيت منه جزعاً أو خوفاً أو تردداً، وإنما كانت الابتسامة لا تفارقه واليقين بحكمة رب العالمين ولطفه لا يغيب عن باله، وكان مؤمناً أشد الإيمان بأن ما يقدره الله على الإنسان من أمور إذا ما تقبلها الإنسان بالرضا والشكر تنقلب إلى منحة من رب العالمين يؤجر عليها الإنسان في دنياه وآخرته). الأمير سلمان يصف معاناته مع المرض: ما رأيت منه جزعاً أو خوفاً أو تردداً.. والابتسامة لا تفارقه ورغم تحفظ سمو أمير الرياض عن كشف جوانب البذل والخير والإحسان في سمو ولي العهد إذ إنها خاصة بينه وبين ربه إلا أن سموه ومن منطلق الأمانة التاريخية ومن باب العبرة التي يحرص سموه على إفادة الآخرين منها، فإنه يؤكد أن سمو الأمير سلطان ينطلق في عطاءاته الإنسانية وحب الخير الذي شغف قلبه من رؤية عميقة جداً ، وهي رؤية قائمة على أن الإنسان إذا لم يقدم الخير ويسعى لإسعاد الآخرين بماله وجاهه فإن ما يملكه من مال لن يسعده وإنما هو مجرد حارس له، وهذه نظرة صائبة وتنم عن يقين وسعي ودأب على عمل الخير قل أن يوجد لدى إنسان إلا ويفتح الله عليه أبواب الرزق والسعادة والخير في الدنيا والآخرة. فقيد الأمة لدى وصوله إلى الرياض من رحلته العلاجية الأولى البداية في الثالث والعشرين من نوفمبر (تشرين الثاني) 2008 أعلن الديوان الملكي عن مغادرة صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز آل سعود ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع والطيران والمفتش العام مدينة جدة متوجها إلى الولاياتالمتحدة لإجراء بعض الفحوصات الطبية، حيث وصل في وقت لاحق إلى مدينة نيويورك يرافقه في رحلته الاستشفائية أخوه صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض الذي كان بحق (أمير الوفاء) حين ضرب انصع وأروع صورة للوفاء من خلال ملازمته لشقيقه في رحلته العلاجية التي امتدت لعام، بعد أن أوكل لأخيه ونائبه صاحب السمو الملكي الأمير سطام بن عبدالعزيز مهام إمارة منطقة الرياض. وصول الأمير سلطان إلى نيويورك للعلاج وبرفقته الأمير سلمان ولعل من الواجب أن نذكر بأن سمو ولي العهد رغم الوضع الصحي الذي كان يمر به إلاّ انه لم يشغله البتة عن متابعة أدواره الجسيمة سواء على مستوى المهام الرسمية والوطنية أو حتى الإنسانية التي اصطبغت بها شخصيته، كما شهدت رحلته العلاجية تواصلاً عميقاً ولافتاً مع القيادات العالمية والعربية والخليجية على حد سواء، وهو ما يعكس أهميته كمسؤول وقيادي كبير فضلاً عن شخصيته الآسرة والمحبوبة من الجميع سواء مواطنين او حكومات. العودة الأولى إلى الوطن عودة الأمير سلطان الى ارض الوطن كشفت عن حجم محبة هذا الرجل الإنسان قبل المسؤول والقيادي إذ إنها رصدت تظاهرة الحب لسلطان الوطن وعودته الميمونة، بدءاً من العناق التاريخي بينه وبين خادم الحرمين الشريفين في مطار الرياض ومروراً بمظاهر الفرح التي عمت شوارع العاصمة، وانتهاء بالحفل الاحتفائي الذي شرفه الأمير سلطان بحضور جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك مملكة البحرين ودولة رئيس مجلس الوزراء اللبناني سعد الحريري والذي أقامه صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية احتفاء بعودة ولي العهد لأرض الوطن. خطاب العودة في أول كلمة لصاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز بعد عودته إلى الرياض، أكد اعتزازه بما لقيه من خادم الحرمين الشريفين من أخلص المشاعر خلال رحلة علاجه، وتطرق إلى كارثة سيول جدة ومحاولات تسلل عناصر الحوثيين إلى جنوب المملكة، مشيراً إلى نجاح موسم الحج العام الجاري، وهذا نص كلمته: الحمد لله حمد الشاكرين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين خير من ابتلي فصبر، وأكرم من أعطي فشكر. أعود إلى أرض الوطن وقد منَّ الله عليّ بالصحة والعافية، وأسبغ عليَّ نعمهُ ظاهرة وباطنة ( وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ )، وأحتسب عنده ما ألم بي من تعب ومرض. وإني لأشعر بالغبطة والسعادة، وتغمرني البهجة وأنا ألتقي مليكي المفدى، وأبناء الشعب السعودي الوفي. كما أهنئ بلادنا والمسلمين كافة على نجاح موسم حج هذا العام، الذي تحقق بتوفيق من الله ثم بمتابعة من لدن سيدي خادم الحرمين الشريفين، وسمو النائب الثاني الأمير نايف بن عبدالعزيز، رئيس لجنة الحج العليا، وجميع الأجهزة التنفيذية التي شاركت في هذا الموسم. إن هذا المقام يُملي عليّ أن أتقدم بأخلص المشاعر وأصدقها إلى سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز الذي غمرني بلطفه، وخفف معاناتي بكريم متابعته، وشرف زيارته، وكان دائم السؤال عذب الكلمات، صادق الدعوات، فأسال الله - جلت قدرته - أن يجزيه خير الجزاء، وأن يهبه دوام الصحة إنه سميع مجيب الدعاء. ولقد أحاطني أصحاب السمو الأمراء وأصحاب الفضيلة العلماء والمعالي الوزراء والمواطنون والمواطنات بمشاعرهم الطيبة، ودعواتهم الصادقة، وأمنياتهم المخلصة، مما كان له الأثر الكبير في نفسي. كما أن زيارات ومكالمات ورسائل الإخوة قادة دول مجلس التعاون الخليجي والمسؤولين فيها، وكذلك قادة الدول العربية والإسلامية الشقيقة، ومسؤولي الدول الصديقة قد تركت في نفسي أطيب الأثر، فلهم ولمواطنيهم من قلب محب، خالص الشكر وأصدقه. لقد آلمتنا أشد الألم الأحداث المأساوية التي تعرضت لها محافظة جدة من جراء هطول الأمطار وما واكبها من سيول. وإننا إذ نبتهل إلى المولى عز وجل أن يلهم ذوي الشهداء الصبر والسلوان، وأن يمنّ على المصابين بالشفاء العاجل، لنسأله سبحانه وتعالى أن يسدد خطى خادم الحرمين الشريفين الذي باشر - كما عهدناه أيده الله - بالتصدي الفوري لهذه الأحداث وإصدار الأمر الملكي بالتعويض الكريم لذوي الشهداء لتخفيف وقع هذه الفاجعة وبتشكيل لجنة للتحقيق وتقصي الحقائق في أسبابها وتحديد المسؤولية فيها والمسؤولين عنها، وإنني على يقين بأنه لن يهنأ له بال - يحفظه الله - حتى يتم وضع الحلول الجذرية التي تضمن - بحول الله - عدم تكرار مثل هذه الأحداث. لقد مرت بلادنا بتطورات عديدة، وتفاعلنا ولله الحمد بإيجابية مع الظروف المحيطة بهذا العالم الذي ننتمي إليه. ومن الإنصاف التأكيد على أن حنكة خادم الحرمين الشريفين السياسية وإخلاصه لدينه ووطنه وإنسانيته قد جعلت منه واحداً من أكثر القادة في العالم تأثيراً في محيطه المحلي والدولي، فقد واصل حفظه الله قيادة بلادنا في هذه الأزمة الاقتصادية العالمية، وشارك ضمن مجموعة العشرين في صياغة مخارج حقيقية لاقتصاد العالم من ركوده، وأسهم بشكل مباشر في رأب الصدع في العلاقات العربية - العربية، فبادر إلى الدعوة الصادقة لتجاوز خلافات الماضي ومواجهة تحديات المرحلة، وأحدث على الصعيد المحلي تغييرات إدارية على المستويين التنظيمي والتنفيذي هدفها الإصلاح ورفع كفاءة الأجهزة التنفيذية في البلاد. إن بلادنا تسير والحمد لله وفق ما رسمه وخطط له خادم الحرمين الشريفين في أن يكون الإنسان السعودي محوراً أساسياً في مشروع التنمية والتطوير، وهو طاقة هذه البلاد وثروتها التي لا تنضب، وقد أوجز ذلك يحفظه الله في قوله « من نحن بدون المواطن السعودي «؛ حيث أصبح ذلك منهج عمل لكل مؤسسات الدولة والمجتمع. أيها الشعب السعودي الوفي: إن دين الإسلام الذي تعتز هذه البلاد بقيامها على أساسه يكرس السلام والحوار والتعايش ويحث على العلم ويدعو إلى البناء وعمارة الأرض، ويرفض العنف والتطرف والإرهاب والانكفاء على الذات. ولقد بذلت هذه البلاد جهوداً عظيمة في بناء دولة عصرية لا تحد طموحاتها الحدود، ولم تستسلم للمعوقات، وواجهت الإرهاب الذي هو عدو للاستقرار والبناء والتطور، وكانت سياسة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز - يحفظه الله - في التصدي للفئة الضالة حكيمة وحازمة في آن واحد مما أسهم بفضل الله وتوفيقه ثم بتعاون المواطن السعودي المخلص في دحر الإرهاب وكشف مخططات التخريب والتدمير، والتي كان آخرها عصابات التسلل التي حاولت الدخول إلى حدودنا الجنوبية، ولكن فضل الله على هذه البلاد ثم قيادة مليكنا القائد الأعلى لكافة القوات العسكرية وبسالة رجال الأمن والقوات المسلحة في تنفيذ التوجيهات الكريمة حال دون تحقيقهم لأهدافهم الإرهابية «وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ، وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين». إن العالم من حولنا يمر بمرحلة حرجة من الاضطرابات السياسية والعسكرية. ولاشك أن حالة عدم الاستقرار في منطقتنا تدعو إلى القلق، ومواصلة التعنت الإسرائيلي وتصديه لكل مقترحات ومبادرات السلام تنذر بخطر داهم يعمق من معاناة الفلسطينيين، ويديم من تأزمات المنطقة، ويضع النظام العالمي من جديد أمام مزيد من التحدي لمواجهة الاستفزاز الإسرائيلي للقرارات الدولية. ومن جانب آخر، فالأوضاع الداخلية للفلسطينيين تحتاج إلى إخلاص النوايا والمراجعة الصادقة وتجاوز الخلافات والنظر إلى المستقبل للخروج من المأزق الحالي ، والسعي نحو توحيد الصف ووحدة الكلمة لمواجهة تحديات هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ القضية الفلسطينية. كما أن عدم الاستقرار في العراق وأفغانستان، وما تمر به كل من اليمن والصومال وباكستان يتطلب عملاً عربياً وإسلامياً ودولياً جاداً ومخلصاً لتجنيب المنطقة العربية والإسلامية المزيد من القتل والدمار ، ولتخفيف معاناة الإنسان ، وتوظيف الإمكانات والطاقات للتنمية والتطوير في هذه البلدان. وفي الختام، إذ أشكر كل من سأل ، وكل من بادر واتصل ، فإني - والله يشهد - ألمس فيض مشاعركم الصادقة ، وأقدر لكم هذا الحب الذي أبادلكم بمثله ، وسعادتي تتضاعف عندما أسمع أن ما تم رصده لإعلان أو احتفال أو غيره قد أنفق لوجه الله تعالى فيما ينفع المحتاجين والمعوزين ، أو ما ينفع الوطن والمواطنين على المدى القريب والبعيد . كما لا يفوتني أن أخص بالشكر أخي صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض الذي لازمني طيلة فترة علاجي خارج المملكة فله الشكر والعرفان. مغادرة للعلاج وفي يوم السبت الموافق 16/7/1432ه أعلن الديوان الملكي عن مغادرة سمو ولي العهد إلى الخارج لاستكمال علاجه، وكان في معيته «رجل الوفاء..سلمان بن عبدالعزيز».. واستمر هناك في نيويورك يصارع المرض إلى أن توفاه الله فجر يوم أمس السبت. حزن أبدي لا شك أن العودة الأخيرة لسمو ولي العهد الثلاثاء المقبل ليوارى جثمانه الطاهر في ثرى هذه الأرض الطيبة التي عشقها وعشقته وبادلها حباً بحب لا شك أنها عودة أليمة؛ إذ سيفتقده الوطن الكبير.. إلاّ أن عزاء الوطن والمواطنين أن لكل أجل كتاباً، وسيظل سلطان الخير رمزاً وطنياً وتاريخياً لن تمحوه السنون ولا تعاقب الأيام والأحداث بعد أن حفر اسمه وأعماله الجليلة في قلب كل مواطن.