قيل لما ولي أبو بكر بن عبدالله بن حزم المدينة وطال مكثه عليها، كان يبلغه عن قوم من أهلها تناول لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسعاف من آخرين لهم على ذلك، فأمر أهل البيوتات ووجوه الناس في يوم الجمعة أن يقربوا من المنبر، فلما فرغ من خطبة الجمعة قال: أيها الناس، إني قائل قولاً، فمن وعاه وأداه فعلى الله جزاؤه، ومن لم يعه فلا يعدمن ذما، مهما قصرتم عنه في تفصيله فما تعجزون عن تحصيله، فأرعوه أبصاركم، وأوعوه أسماعكم، وأشعروه قلوبكم، فالموعظة حياة، والمؤمنون إخوة، وعلى الله قصد السبيل، ولو شاء لهداكم أجمعين. فاتقوا الله وأتوا الهدى تهتدوا، واجتنبوا الغي ترشدوا، وانيبوا إلى الله أيها المؤمنون لعلكم تفلحون. والله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه أمركم بالجماعة ورضيها لكم، ونهاكم عن الفرقة وسخطها منكم، {فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فانقذكم منها} (آل عمران: 102-103). جعلنا الله وإياكم ممن يتبع رضوانه ويتجنب سخطه، فإنما نحن به وله. إن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالدين، واختاره على العالمين، واختار له أصحاباً على الحق، ووزراء دون الخلق، اختصهم به، وانتخبهم له، فصدقوه وعزروه ووقروه، فلم يقدموا إلا بأمره، ولم يحجموا إلا عن رأيه، وكانوا أعوانه بعهده، وخلفاءه من بعده، فوصفهم بأحسن صفتهم، وذكرهم فاثنى فقال عز وجل وقوله الحق: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الانجيل كزرع اخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة واجرا عظيما} (الفتح: 29). فمن غاظوه فقد كفر وخاب وفجر وخسر، قال الله عز وجل: {للفقراء المهاجرين الذين اخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون، الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما اوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون، والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم} (الحشر: 8-10). فمن خالف شرائط الله تعالى عليه لهم، وأمره إياه فيهم، فلا حق له في الفيء، ولا سهم له في الإسلام، في آي كثير من القرآن، فمرقت مارقة من الدين وفارقوا المسلمين، وجعلوهم عضين، وتشعبوا أحزاباً، وأشابات وأوشابا، فخالفوا كتاب الله فيهم، وثناءه عليهم، وآذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخابوا وخسروا الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين. {أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم} (محمد: 14). ما لي أرى عيوناً خزراً، ورقاباً صعراً، وبطونا بجراً، وشجى لا يسيغه الماء، وداء لا يؤثر فيه الدواء. {افنضرب عنكم الذكر صفحا ان كنتم قوماً مسرفين} (الزخرف: 5)، كلا بل والله هو الهناء والطلاء، حتى يطر العر ويبوح الشر، ويضح العيب، ويستوسق الجيب، فإنكم لم تخلقوا عبثاً، ولن تتركوا سدى. ويحكم إني لست إتاويا أعلم، ولا بدويا أفهم، وقد حلبتكم أشطرا، وقلبتكم ابطنا واظهرا، فعرفت أنجاءكم، وعلمت أن قوماً أظهروا الإسلام بألسنتهم وأسروا الكفر في قلوبهم، فضربوا بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض، وضربوا الأمثال، ووجدوا على ذلك من أهل الجهل من أبنائهم أعواناً، يأذنون لهم ويصغون إليهم. مهلاً قبل وقوع القوارع، وحلول الروائع، ومع ذلك فلست أؤنب تأنيباً، عفا الله عما سلف، ومن عاد فينتقم الله منه، والله عزيز ذو انتقام. فأسروا خيراً وأظهروه، واجهروا به واخلصوا، فطالما مشيتم القهقرى ناكصين، وليعلم من أدبر وأصر أنها موعظة بين يدي نقمة، ولست أدعوكم إلى هوى يتبع، ولا إلى رأي يبتدع، انما أدعوكم إلى الطريقة المثلى التي فيها خير الآخرة والأولى، فمن أجاب فإلى رشده، ومن عمي فعن قصده. فهلموا إلى الشرائع لا إلى الخدائع، ولا تولوا غير سبيل المؤمنين، ولا تستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير {بئس للظالمين بدلاً} (الكهف: 50). وإياكم وبنيات الطريق، فعندها الرهق، وعليكم بالجادة فهي أسد وأرد، ودعوا الأماني فقد أردت من كان قبلكم، وليس للإنسان إلا ما سعى ولله الآخرة والأولى. {لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب، وقد خاب من افترى} (طه: 61) {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب}.