نسمع في بعض الأحيان من يقول : والله إنه لقطة غليص ، ما فيه فائدة ، لم يأت منه إلا الخسارة والشر والقشر ، ويعني سيارة اشتراها ، أو صديق جديد تعرف عليه ، أو مزرعة جديدة نال منها الخسائر ، ولكي تتضح الرؤية حول غليص وشخصيته الوهمية غالباً أو الحقيقية احتمالا نورد ما يلي :. ونقف أولا عند كلمتي : لقطة ، و غليس أما كلمة : لقطة بسكون القاف ، فهي كل ما يلتقط من الأرض لا يعرف الملتقط له صاحب ، ولكن في الغالب لا يلتقط إلا ما يكون له فائدة لمن التقطه ، وإلا تركه شأن كل مهمل . وقد نلتقط حيوانا لأكله أو يكون مصاباً فنرحم حالته ونبعده عن الأخطار. أما كلمة : غليس ، فهي تصغير غلس ، وهو الظلمة في آخر الليل ، فالغلس يجعل الناظر لا يميز تماما من الذي أمامه ولا يتبين ملامح وجهه كما لا يتبين الشيء الذي التقطه في هذه الظلمة أو الغلس . وتنطق السين صادا فيقال : غليص . والكثيرون في نجد خاصة ينطقونها : غليص ، مثل ما يقولون فلان : صخي ، يعني سخي وهو الكريم ، وصبخة ، يعنون سبخة ، و مصطرة يعنون مسطرة ، و صلخ الخروف فهو مصلوخ ، ويعنون سلخ ومسلوخ ، وهكذا الكثير مما اعتادوا على نطقه خلاف الأصل في هذا الحرف وفي غيره مما ليس هذا مجال توضيحه . المهم أن هناك قصة أخذت من هذه الكلمة [ غليص ] عنواناً لها ، فلعل الرواة قصرت حكاياتهم وبترت رواياتهم فوجدت القصة من يكملها بعدة روايات تقترب وتبتعد ، ففيها روايات تجعل من هذه اللقطة وبالًا على من التقطها ، بينما تحولها أخرى إلى لقطة حميدة ، وأخرى ثالثة جعلت للقصة هدفاً آخر مختلفاً هي إلى الخيال أقرب بغرض تنمية الفضائل . وعلى العموم فإن اللاقط في روايتين هو : غليس ، حيث التقط مرة حية فلدغته والأخرى التقط المرأة فتزوجها ، أما المرة الثالثة فكان هو الملتقط حيث كان جريحا فصار نقمة على من التقطه . وبهذا نصل إلى روايات ثلاث نبدأها بأكثرها اختصارا وأيسرها وأوضحها ، ومنها بدأت قصة المثل الشعبي المعروف : ( لقطة غليص ) ولقطة غليص تعني أن غليس كان يسير في آخر الليل ، فأبصر في وقت الفجر وشدة البرد حية ( ثعبانا ) وقد تكور على نفسه لا حراك فيه ، فرحمه ووضعه في ثيابه ، وانطلق به يبحث عن مكان يدفئه فيه ، فلما أحس الثعبان بالدفء وهو في حجر غليس أخرج رأسه ولدغه ، فصارت حكايته يضرب بها المثل ، لكل من يفعل المعروف في غير أهله . وليس بالضرورة أن تكون القصة حقيقية ولكن المجتمع يحبذ وضع دروس إرشادية يستضاء بها ويسترشد في دروب الحياة . ولعل هذا هو المقصود من القصة أساساً ، وذلك من أجل تحري بذل المعروف ووضعه في موضعه الصحيح ومن هو أهل له ، وعدم بذله في من طبعه الجحود فينقلب شرا على أهل المعروف والطيبين . أما الحكاية الأخرى والتي صار غليص محورها الذي تدور حوله ، فهي أن غليص كان من ضمن قوم يغزون القبائل كما جرى من بعضها في فترة جهلها وتشوش مفاهيمها وفقدها لمقومات التعاون والوحدة ، و اعتبار ما تنهبه من الآخرين وما تستولي عليه ولو عدواناً يعد كسباً وباب رزق . كان غليص نتاج هذا المفهوم الخطأ ، فانفصل عن قبيلته يزاول قطع الطريق ، مع منهم مثله ، وفي إحدى المرات سقط جريحاً ، وكاد أن يموت ، وقد مره أحدهم فأشفق عليه ، وحمله إلى بيته ، وداوى جراحه واعتنى به ، فلما تماثل للشفاء راود صاحبة البيت عن نفسها لكنها صرفته عن مقصده الدنيء ، فلما أخبرت زوجها وسمع غليص نجواهم ظن أنهم يدبرون له أمراً فاغتال صاحب البيت وهربت المرأة على فرس حتى لجأت إلى إحدى القبائل ، فلما أخبرتهم الخبر عرفوا أنه غليص فهو ولدهم ويعرفون جرمه ، فطلبوا رأسه لما صدر منه من محاولة الاعتداء على الشرف ، ولما حصل منه من غدر صاحب البيت الذي أضافه وأنقذه وأكرمه ، وبالفعل تتبعوه ، وأعادوا للمرأة حقوقها مما تركته وقت هربها . وبقيت القصة بحقيقتها أو خيالها مثلا يضرب لمن يفعل المعروف في غير أهله ، ولعل القصة لا أصل لها أو لها أصل كل ذلك لا يهم ، فالذي يهمنا الآن هو ما الهدف المراد إيصاله لنا من خلال القصة ؟ والجواب : أنه تحري بذل المعروف في من ينفع المعروف فيه ، ولا يفهم منها قطع المعروف و منع بذله ، وإن كانت القصص التي تشابه مثل هذه قد تسبب قطع المروءة في حال آثرنا السلبية وفضلناها على إيجابية العمل الطيب . أما الرواية الأخرى والتي تختلف تماما عن هاتين الروايتين ،فهي أن غليص كان قاطع طريق وهذا قاسم مشترك بينها وبين ما سبقها ، يلتمس غفلات الآخرين فيسطوا على شيء من حلالهم ( ابل أو غنم ) ولكنه في إحدى سفراته عبر الصحراء جلس قريباً من مورد ماء ، فأشعل ناره وأعد طعامه وهو قرص جمر ، فلما دفن القرص في النار وجعل عليه الرمال وانتظر نضجه أقبلت عليه مجموعة من أهل البادية وحلوا في المكان بنية التزود بالماء ، والاستراحة ، فلما رآهم خاف منهم فأبعد عن المكان والتجأ إلى ما يؤويه ويخفيه عن نواظرهم ، وعندما حل الظلام ساقه الجوع إلى مكان القرص بغية إخراجه وأكله ، ولكن خيمة أحدهم ضربت فوقه وهو شيخهم ، فتسلل داخل تلك الخيمة يتحسس قرصه ، فتنبهت له إحدى البنات في الخيمة وظنته يريد شرا بها أو بأهلها لكنه طمأنها بأن مقصده بعيد كل البعد عن ظنها وأنه إنما جاء لاستخراج قرصه من النار التي دفنت بما فيها من قرص داخل الخيمة ، فلما تبينت الأمر على حقيقته صدقته ، فأخذ قرصه وهم بالانصراف ولكن تبين لها أن الكلاب سوف تنبح عليه كما نبحت أثناء قدومه وفي هذه المرة سينكشف أمره وربما تنبهوا لدخوله في الخيمة ، فرافقته لكي يبتعد عن مكانهم، ثم ترجع بحسب ما قدرته ، وأثناء مسيره سقط في مورد الماء وهو بئر قريب منهم ، ولو تركته حتى الصباح لم يكن هناك مشكلة ، ولكن حاولت إخراجه فلما أمسكت بيده على شفير البئر سقطت معه ، فلا هو يستطيع الخروج دون الحبل الذي سقط معها ولا هي تستطيع الخروج فتفارقه. بقي الاثنان حتى الفجر ، ولما جاء خادم والدها ليأخذ من البئر ماء للاستخدام وتصليح القهوة سمعها ومن معها في البئر فعاد وأخبر والدها ( عمه ) فتأكد من ذلك ، وأمر بالرحيل عن المكان ، وأمر الخادم بعد انصرافهم أن يجمع الحطب و يلقيه في البئر ويشعلها عليهم نارا ليموتوا في بئرهم ،وهذا ظن سيء متعجل . ولما شدو الرحيل جمع الخادم أو عامل القهوة حطبا كثيرا يلقيه في البئر كل فترة ، مما تمكنا معه من الصعود قبل إشعال النار ، أو أنه مكنهم من الهرب رحمة بهم وعدم قدرة على فعل هذا الأمر. وطويت صفحة هذه البنت مع الغريب ، الذي هو غليص ، والذي لا يعرفه أحد منهم. وبعد أن تمكنا من النجاة صادفا وجود قبيلة على طريق هربهم ، فعاشا بينهم وتزوجا بعلم من رؤوس تلك القبيلة شيخها وأهل الرأي فيها ، وبحسب ما يجري في وقتهم ، أو هكذا يريد القصاصون لإكمال الحكاية تلك ، وحتى تكون النهاية مقبولة . وبعد فترة قدم بعض أفراد من قبيلتها ومنهم أخوتها ووالدها. فعرفتهم وهم لا يعرفون زوجها غليص ، ولم يروها مباشرة ، فلما جلسوا في ضيافة غليص حكى قصته عليهم على أنها قصة جرت على غيره ، وأنه سمعها من الآخرين حكاية تروى مجهولة الأشخاص. فتعجبوا من قصته تلك وقالوا هذه قصة ابنتنا ليتنا نراها ونعلم حالها ، ليتنا لم نتعجل هلاكها . فأخبرهم أنه هو غليص وأن هذه ابنتهم فكان لقاء على غير موعد ولا ميعاد. واجتمع الشمل من جديد. هذه القصة وبهذه الرواية التي قد استعذبها البعض ، لا يمكن أن تكون لقطة غليص مما يتوافق مع الروايتين التي وردت أولا. ذلك لأن لقطة غليص هذه المرة مقبولة ومن الأشياء التي ليس فيها ما يسوء لمن التقطها بل أن هذه اللقطة قام بها غليص بنفسه ، واللقيطة تلك صارت زوجة له وليس فيها بذل معروف في غير أهل ولا إرشاد لشيء محدد ، إلا في مجال عدم التسرع بالحكم على الأحداث التي تجري. وهذا قول شاعر حول الجمايل وينطبق على غليس الذي غدر وعلى الثعبان ، ولا ينطبق على قصة غليص وفتاته وقرصه : الطيب ما ينبذر بالهيس يجزاك بالعكس بأفعاله على سواة سواة غليس باللي من المعركة شاله عقب الجمايل ومره إبليس جازاه بالبوق واغتاله و يقول الشاعر صالح الضويحي وسلام يامن كرس الجهد تكريس لإحياء مآثر ناطحين المغيره اليا نوى ماردها للمفاليس ولاحط عنده حاجبٍ يستشيره ويهب ياوقتٍ مثل [لقطة اغليس] مصائبه جتنا على متون خيره به اصبح اللي كدس المال تكديس شيخ العرب لو باري القوس غيره ويقول شاعر آخر : وانت اتعرفني ياعريب المجاني ماودي اظلم حظكم يالشجيعين وانا ترى طيبي وشعري كفاني ومن دون نفسي يشعبني شياطين إن كانها بالطيب مالك هواني تقلط غلا بحساب ربعٍ حشيمين وإنّ جت على شر وشريره تراني ( لقطة غليص ) اللي تسد الشرايين وهو المخيّر وإن بغاني لقاني ماهوب جاهلني يعرف العناوين ونختم بأن لقطة غليص كانت شرا ، ولا يفتخر بالغدر أحد ولكن كما يقال من باب الصد والرد العنيف ، أنا لحمي مر ، وأنا غصة في الحلق ، وكثيرا من الأوصاف التي يراد بها في الأساس الركون إلى أقسى العبارات بغية التوقي للخطر قبل وقوعه ، كما يتسمى الأولاد فيما مضى بأقسى ما يفكر فيه العدو للقبائل ، فيسمون صخرا وسيف ، ورعد وذيب وغازي وصعب ، و غادر ....الخ وبالتالي فإن ( لقطة غليص) صارت مضرب مثل قد أخذ منها الجانب الصعب والشر لا جانب الغدر وعدم الوفاء ، خاصة إذا وصف الشخص نفسه بها أما إذا وصف غيره بلقطة غليص فإنه يقصد الغدر والجحود ونكران الجميل