تقول الروائية إيزابيل الليندي (في الواجهة هناك يجلس الرجال يحتسون مشروبهم ويتداولون الأخبار، ويرسمون خرائط العالم ويصممون ويرسخون قيمه، ويرتبون بالتدريج قائمة أولوياته. وتتقهقر النساء إلى الداخل لإعداد الطعام وللاعتناء بالصغار والحفاظ على العالم متماسكا آمنا من مغامرات الرجال وجموحهم). لا أعتقد أن هذا المشهد يقتصر على (شيلي) بلد الليندي بل هو مشهد تقليدي في الكثير من أنحاء العالم، ولكن هذا التصميم المزدوج لا يقتصر على الحيز المكاني بل هو ازدواج ينسحب على الكثير من الفضاءات التي تتحرك بها النساء. تقول لي صديقة بأنها لو أخفت اسم الكاتب عن أي كتاب أو مقالة لا استطاعت أن تحدد هويته هل هو رجل أو امرأة من السطور الثلاثة الأولى ليس فقط فيما يتعلق باختيار الموضوع بل الوعي وطريقة التناول والمقاربة، وكأن هناك حدودا مرهفة خفية قد لا نعيها قد رسمت الحدود بين الطرفين تحدد المساحة التي من الممكن أن تتحرك بها المبدعة أو المحبرة التي تغمس ريشتها في حبرها، وفيندر أن نصادف كاتبة رأي مختصة في الشؤون السياسية مثلا أو في الشؤون القضائية أو الاقتصادية، لربما هذه القلاع مصمتة دونها على أرض الواقع وبعيدة عن مجسات وعيها، أو قد يعود سبب عزوفها عن هذه المجالات إلى ترسخ لا وعي جمعي يكفكفها إلى الحرملك وإلى الغرفات أو النوافذ المحدودة التي من الممكن أن تطل منها، والتي من الممكن أن تنتج وتعطي من خلالها كمساهمة ضئيلة في صناعة تيار الرأي العام. قامت الكثير من الدراسات الاجتماعية والأدبية النسوية حول هذا الموضوع وأرجعت هذه الدراسات إلى المرأة نفسها جزءا كبيرا من صناعة هذا الازدواج عندما تكون مستلبة متخاذلة أمام قوانين الحصار بلا وعي أو إرادة مستقلة. وعبر التاريخ لم تمنح النساء بطاقة دخول إلا لحيز ضيق قصي من بلاط الإبداع، وإلا لماذا أغلب الشاعرات العربيات في دواوين الشعر اشتهرن بالمراثي، ورثاء الأخوة بالتحديد؟ هل لأنه المكان الوحيد الذي سمح لهن بدخوله؟ والمقاعد المتاحة لهن؟ حتى على مستوى الخطاب الديني على الرغم من أن كتب التاريخ حافلة بأسماء عدد من الراويات والفقهيات، فإنهن كن لا يسهمن في إنتاج خطاب شرعي وفق رؤية إنسانية خاصة بتجربتهن ومعاناتهن، بقدر ما كن يعملن كحافظات ومنجبات للخطاب السائد لإعادة إنتاجه وفق نفس الشروط والخصائص التي صنعها المشرعون الذكور. وعدا تلك المرأة التي نهضت وخطأت عمر بن الخطاب رضي الله عنه حول (صداق النساء) واستجاب لها الفاروق لخاصية العدالة في تكوينه، فيندر أن ينقل التاريخ خبر امرأة نهضت وجاهرت برأي شرعي أو فقهي خاص مستقل يلبي حاجات النساء ومعاشهن الديني والدنيوي، بل بقين متورطات عاما اثر العام (بلا انقطاع) بأسئلة دمائهن وحيضهن ينثرنها على الشاشات بشكل مستفز بينما تبقى غرفات الوعي العلوية خاوية. ما برحت النساء على الضفاف حذرات مترددات، ولم يسهمن بشكل واضح وجدي في صناعة تيار رأي عام بشكل يخدم همومهن وقضاياهن.