تتمايل مطاياهما نحو طيبة.. الشوق يفتك بحذيفة ووالده حسيل رضي الله عنهما، وفي الطريق وقرب مكان يدعى (بدر) يأسرهما جيش الوثنيين ويستجوبهما، فيعترفان بالشوق للنبي صلى الله عليه وسلم، فيغضب الوثنيون ويرفضون إطلاقهما إلاّ إن تعهدا بعدم القتال معه عليه السلام. فيتم ذلك وينطلقان حزينين فلا يزول ذلك الحزن إلاّ بلقائه حيث فرح بهما، ومباشرة أخبراه عليه السلام بما حدث، فيطلب منهما مواصلة السفر نحو المدينة، ويرفض أن يشاركاه المعركة، فلا مكان في دولة الإسلام للغدر والخيانة ولو كان لجلب مصلحة. يقول حذيفة: (فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه. فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر فقال: انصرفا.. نفي بعهدهم ونستعين الله عليهم- مسلم).. يا له من رقي.. يرفض رغم حاجته الماسة وتشوقهما للشهادة. مرت سنوات وتضعضعت قريش، فتخلص أحد أبنائها الشجعان من أسره نحو المدينة.. اسمه (أبو جندل) وكل أمله أن تؤويه دولة الإسلام، فهو هارب من تعذيب وثنيين أشرس من إسرائيل اليهودية وصربيا الأرثوذكسية، وهل هناك أشرس من أمية وفرعون الأمة أبي جهل؟ ومع ذلك رفض النبي وقلبه يعتصر ألماً طلب اللجوء الذي قدمه أبو جندل رغم كونه مسلماً.. رفض عليه السلام ذلك لأنه قد وقع اتفاقية تقضي بأن لا تؤوي دولة الإسلام أي مسلم جديد قادم من مكة مدة عشر سنوات (شرط قد يكفرك المتشددون لو وقعت عليه اليوم) هذا الالتزام الصارم لا يتعلق بأخلاقيات المسلمين العذبة فقط، بل بعظمة الإدارة للدولة، حيث للالتزام بالاتفاقيات والمعاهدات التي تبرمها دولة الإسلام أولوية قصوى مهما كانت شروطها مجحفة، حتى وإن كانت الدولة الأخرى بالغة العداوة. البيعة عقد أيضاً والمواطنة كذلك، ومن حق كل طرف المطالبة بحقوقه بعيداً عن الإيديلوجيا والعواطف، لكن عليه الالتزام بعقده تجاه الطرف الآخر.. في عهده عليه السلام كان هناك مواطنون بايعوه وعاهدوه نبياً وقائداً للدولة، كعبدالله بن سلول، ومنهم من عاهده على المواطنة فقط كيهود النضير وقينقاع وقريظة، لكنهم ظلوا جميعاً خناجر تتجول في خاصرة الدولة وظهر الوطن.. ظلوا خونة ينسقون مع أعداء الوطن ويتآمرون لزعزعته، وظلوا يتناسلون لتتكرر الصور.. حتى رأينا من هو مستعد لبيع وطنه لمن يمنحه وهماً وخيانة. من حقك أن تخرج كل ذرة من تراب وطنك، وكل نسمة من هوائه من قلبك وتضع بدلاً عنها ما شئت، فلا يمكن محاسبتك على ما في سريرتك مهما فضحتك العبارات ولحن القول وفلتات اللسان، لكن شيئاً خطيراً إن أقدمت عليه فأنت توقع صك خيانتك: أن تنقض عقد المواطنة وأنت تدعيها.. حينها أنت صورة حداثية أو تراثية لابن سلول أو الشاعر اليهودي كعب بن الأشرف أو الحاخام ابن أخطب.. أنت تمارس الخيانة العظمى حسب أعراف كل الشعوب والدول والديانات على مدار التاريخ. يا لها من مسافة هائلة بين النجوم والحضيض.. بين سمو ثقافة تلميذ محمد صلى الله عليه وسلم حذيفة، وانحطاط ثقافة تلاميذ ابن سلول وابن أخطب وأبي لؤلؤة.