لنرقب هذا المشهد سويا ، نستلهم منه درسا ، ونقطف منه عبرة ، ونغرس به يقينا ، ونقوي به عزما . ها هو عامر بن ربيعة رضي الله عنه ، وهو أحد السابقين في الإسلام ، كان يستعد للهجرة إلى الحبشة ، فذهب ليقضي بعض حاجات أهله، وترك زوجه تنهي بعضها، فأقبل عليها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حتى وقف عليها وهو على شركه، قالت: وكنا نلقى منه البلاء أذى لنا وشدة علينا. قالت: فقال: إنه الانطلاق يا أم عبدالله. قالت: فقلت: نعم والله، لنخرجن في أرض الله، آذيتمونا وقهرتمونا. حتى يجعل الله فرجا. قالت: فقال: صحبكم الله . ورأيت له رقة لم أكن أراها ، ثم انصرف . وقد أحزنه فيما أرى خروجنا . قالت : فجاء عامر بحاجته تلك ، فقلت له : يا أبا عبدالله لو رأيت عمر آنفا ورقته وحزنه علينا . قال : أطمعت في إسلامه ؟ قالت : قلت : نعم . قال : فلا يسلم الذي رأيت حتى يسلم حمار الخطاب . قالت : يأسا منه ، لما كان يرى من غلظته وقسوته عن الإسلام . لقد يئس الصحابي السابق في إسلامه ، المهاجر فرارا بدينه ، من أن يفتنه قومه ، يئس من إسلام عمر ، فقد كان عمر شديد البطش بالمسلمين ، قاسيا غليظا . ولكن ما كان ميئوسا منه وقع ، وأسلم عمر ، بل سبق اليائس منه في المنزلة ، والمكانة ، وغدا ثالث رجل في دولة الإسلام ، وسماه الرسول صلى الله عليه وسلم الفاروق ، وكان إسلامه عزا للإسلام وأهله . والعجيب أن أكثر المسلمين لا يعرفون عامرا ، وليس فيهم من لا يعرف عمر رضي الله عنهما . لقد منَّ الله تعالى على عمر بما لم يمنَّ به على اليائس من إسلام عمر ، وتفضل على الميئوس منه بفضل عظيم لم ينله اليائس ذلكم أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم . إن من أهم ما نقطف من ثمار هذا المشهد أن لا نيأس ، لا نيأس من رحمة الله ، ولا من نصر الله ، ولا من هداية الله لأي كان . فعمر أسلم ، وقد يئس عامر من إسلامه يأسا علقه بأن يسلم الحمار دونه . ويصدق ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمهل قومه في قصة قرن الثعالب ، ولم يهلكهم وقد كان يقدر على ذلك بأن يأمر الملك أن يطبق عليهم الأخشبين ، مع كل ما كان يواجهه من ظلم وعنت ، يرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا ، فأمهل أبا جهل ، وأمية ، والوليد بن المغيرة . ودعا لقومه بالهداية في أحد ، وهم الذين أدموا وجهه ، وكسروا رباعيته ، فقال : رب اهد قومي فإنهم لا يعلمون ، كما في الشفاء للقاضي عياض . فهدى الله من شاء منهم ، وتاب عليهم ، فآمن به واتبعه ، أبناء أولئك الصناديد ، رؤوس الكفر وقادة حزب الشيطان ، نعم ، لقد آمن به واتبعه قائد فرسان المشركين في أحد خالد بن الوليد بن المغيرة ، بل صار سيفا من سيوف الله مسلولا على أهل الكفر والزيغ والعناد . وآمن به صفوان بن أمية بن خلف ، وآمن به عكرمة بن أبي جهل . فهل نستطيع صبر أنفسنا عن شهوة الانتقام ، والانتصار ، والعلو ؟ هل نستطيع كبح جماحها حتى مع وجود الدليل حتى لا تطغى ، أو تحيد أو تميل ؟ ولتنظر في عواقب الأمور ، وتسبر غورها قبل أن تقدم على أي فعل قد ينتج نصرا ، وقهرا ، وعزا في وقته ، ولكنه يزداد من ذلك كله في حال الصبر والتحمل ، والفأل ! ألسنا نميل غالبا إلى أن لا نعطي الدنية في ديننا ؟ وهذا حق ، ولكن قد يكون أحق من هذا الحق ما تثمره شجرة الصبر والتأني والحكمة . إن اليأس من هداية الناس ، أو إصلاحهم محطم للعزائم ، موهن للهمم ، دافع من تملكه ذلك اليأس إلى قتل نفسه ، وقتل من يظن أنهم لا يؤمنون ، وأنهم لا يهتدون . وفي الحديث : من قال هلك الناس فهو أهلكُهم بضم الكاف ، أو أهلكَهم بفتح الكاف ... وكلا المعنيين صحيح . فمن الواجب علينا أن نتواصى بالحق ، وأن نتواصى بالصبر ، مع الإيمان والعمل الصالح ، ولننظر بعين العطف على من زل ، أو أخطأ، أو ضل ، ولنغطهم بجناح اللطف والحرص على هدايتهم ، وردهم إلى الله ، ولنسأل الله الثبات على الحق . وليعلم كل منا أنه ليس وصيا على الناس ، فقد قيل للحبيب صلى الله عليه وسلم : ليس لك من الأمر شيء . وقيل له : وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل . وقيل له : أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين . إن عليك إلا البلاغ . فما علينا إذاً ؟ إن علينا أن ندعو ، وأن نجاهد في دعوتنا ، ونصبر عليها ، ونبذل قصارى الجهد في التبيان ، والدلالة ، والمحاورة ، والوعظ بالحسنى . ونسأل الله لكل ضال أن يهديه ، ويشرح صدره ، ويجنبه طريق الضلال ، وينقذه من النار . فكما هدى الله عمر رضي الله عنه ، فغدا من تعرفون ، بعد أن كان قاسيا غليظا على المسلمين ، لقوا منه أشد ما يكون من البلاء والشدة ، فعسى أن يهدي فلانا العلماني ، أو فلانا المحارب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم . وكما أخرج الله من أصلاب الصناديد المعاندين لدينه ، المحاربين له ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، فعسى أن يخرج من أصلاب من نظنهم أشبه القوم بهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا . ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض . وفي الحديث " كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين ، فكان أحدهما يذنب ، والآخر مجتهد في العبادة ، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول : أقصر ، فوجده يوما على ذنب فقال له : أقصر ، فقال : خلني وربي، أبعثت عليّ رقيبا ؟ فقال : والله لا يغفر الله لك ، أو لا يدخلك الله الجنة . فقبض أرواحهما ، فاجتمعا عند رب العالمين ، فقال لهذا المجتهد : أكنت بي عالما ؟ أو كنت على ما في يدي قادرا ؟ وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي ، وقال للآخر : اذهبوا به إلى النار " قال أبو هريرة : والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته. لقد غفر للمذنب ، وأدخل الجنة بعمل المتقي وصنعه ، وما فعل الناصح ما فعل إلا غيرة على محارم الله ، ونصحا لله ولدينه . فلنتق الله في أنفسنا ، وفي أبنائنا ، ولنعلمها ونعلمهم أن للغيرة على الدين والنصح لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ضوابط ، وقواعد وشروطا ، يجب أن تراعى حتى لا يضيع الجهد ، وتفشل المسيرة ، وقد كان الحبيب صلى الله عليه وسلم أغير من سعد ، والله أغير منهما، ولكن في مسألة العرض والزنى لا بد من اتباع شرع الله لا العواطف والشيم المجردة منها . فالحماس والعاطفة والغيرة والنصح والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد كل ذلك دين ، وواجب في الدين الاتباع ، والأخذ من مشكاة النبوة على فهم السلف وإلا كان من المتحمس الآمر الناهي المجاهد كان منه الزلل والزيغ ، وكان الإفساد قرين إزالة الفساد ، وهذا يحتاج إلى الأمل مع العمل ، والرجاء فيما عند الله تعالى ، وديننا دين عملي واقعي ، لا ييأس أبدا ، ففيه عن رسول الهدى أمر بأن لو قامت ، تأمل لو قامت الساعة وفي يد أحدنا فسيلة ، فإن استطاع أن يغرسها قبل أن تقوم فليغرسها . لا تسأل متى ستنبت ؟ متى ستثمر ؟ من يسقيها ؟ انتهى الوقت ، فقط افعل ، ودع أمر ما بقي إلى الله ، وإلى الله ترجع الأمور، والله المستعان.