تخرج من مدرسة النبوة، وغيرته حياته فيها تغييرا جذريا، فتخرج منها بامتياز، وحاز مرتبة الشرف، والسمو، وبلغ منزلة لم يستطع غيره من الأمة أن يصل إليها غير واحد، أقر هو أنه عجز عن مجاراته ، وكل من الرجلين كانا غرسا من غراس النبي ، صلى الله عليه وآله وسلم ، رعاهما بهديه ، ورباهما بسنته ، وأفاض عليهما من أخلاقه. فأدر عدسة التصوير الإيمانية ، على رجل من إنتاج مزرعة التقوى ، أنتجت ثمرات مختلفا ألوانها ، رجالا لا يتكررون ، وجيلا أفراده لا يُدرَكون ، واحدهم يطأ الأرض برجليه ، ويرى الدنيا بعينيه ، ويسمع الأحاديث بأذنيه ، ويتكلم بشفتيه ، وهو من أهل الجنة ، يقطف من ثمرها ويتذوق طعمها ، ويشم عبير رائحتها ، وهو لما يزل يتنفس برئتيه ، يشم عبق ريح الفردوس ، وليس بينه وبينها إلا أن تخرج نفسه التي بين جنبيه . فانتقل بروحك في بث يبعث الحياة في القلوب ، ويشعل شوق النفس لكي تقلع عما أسرفت وتتوب ، واقرأ في هذه الدقائق شيئا يسيرا من سيرة فذ من رجال محمد ، صلى الله عليه وآله وسلم ، كان عينا من عيون كثيرة نبعت من بين يديه الشريفتين ، تفجرت هديا زلالا ، يسقي منه من أراد الله هدايته فيروى ، فسيرتهم بحق أشبه ما تكون بماء زمزم ، طعام طعم وشفاء سقم ، يطعم الأرواح زادا من التقى ، ويشفي القلوبَ ما تحمله من بلسم الهدى ، فقف هناك والتقط بعض أخباره . أحد السابقين الأولين ، شهد المشاهد كلها ، وممن رضي الله عنهم ورضوا عنه . أحد العشرة المبشرين بجنة الخلد، دار المتقين . أحد الوزيرين ، وثاني العمرين ، خذها كالأنموذج والمثال، وإلا فإن سيرته تحتاج أسفارا ، وتروى في أيام عديدة ، وليال طوال . لقد كان سيدا كبيرا ، أبلى في الإسلام بلاء حسنا ، حتى مات شهيدا ، له المناقب الكثيرة ، والفضائل الغزيرة ، عمر بن الخطاب ، الفاروق ، الملهم ، المحدث . ولد بعد عام الفيل بثلاثة عشر عاما ، وبُعث النبي صلى الله عليه وسلم وعمر في السابعة والعشرين من عمره ، وأسلم سنه 6 من البعثة ، وقد أسلم قبله أربعون ، وقيل كان هو تمام الأربعين ، وتولى خلافه المسلمين وعمره اثنتين وخمسين سنة ، ومدة خلافته عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام ، ومات وهو في الثالثة والستين مثل عمر النبي صلى الله عليه وسلم . كان بائن الطول أي : طويل جدا . إذا رأيته يمشى كأنه راكب ، مفتول العضل ، ضخم الشارب ، أبيض مشرئب بحمره ، حسن الوجه ، أصلع ، إذا مشى أسرع كأنما يدب في الأرض ، إذا تكلم أسمع ، أي : جهوري الصوت ، فإذا تكلم بجوار فرد في غفلة ربما غشي عليه من الخوف نظراً لهيبته بين الناس . قال عبدالله بن عمر: كان أبي أبيض تعلوه حمرة ، طوالاً ، أصلع ، أشيب . وقال غيره : كان أمهق - أي خالص البياض - ، طُوالاً ، أعْسَرَ . وقال أبو الرجاء العطاردي : كان طويلاً جسيماً ، شديد الصلع ، شديد الحمرة ، في عارضيه خفه . وتعددت الروايات في سبب إسلامه ، ويجمع بينها القرآن ، إذ اختلفوا في الآيات التي كانت سبب إسلامه ، لكنهم لم يختلفوا في أن سماعه للقرآن هو السبب . ولقد كان عمر رضي الله عنه ذا شكيمة لا يرام ، وقد أثار إسلامه ضجة بين المشركين بالذلة ، والهوان ، وكسا المسلمين عزة وشرفاً وسروراً. روى ابن إسحاق بسنده عن عمر قال : لما أسلمت تذكرت أي أهل مكة أشد لرسول الله صلى الله عليه وسلم عداوة ، قال : قلت : أبو جهل ، فأتيت حتى ضربت عليه بابه فخرج إلي ، وقال أهلا وسهلا ، ما جاء بك ؟ قال : جئت لأخبرك أني قد آمنت بالله وبرسوله محمد ، وصدقت بما جاء به. قال : فضرب الباب في وجهي ، وقال : قبحك الله ، وقبح ما جئت به. وبعد أن أسلم عمر استشار النبي صلى الله عليه وسلم في أن يخرج المسلمون ويعلنوا إسلامهم في المسجد الحرام فأذن له ، وخرج المسلمون وهم يومئذ أربعون رجلا في صفين ، يتقدم أحدهما حمزة بن عبد المطلب ويتقدم الثاني عمر ابن الخطاب ، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بالفاروق . وبإسلامه رضي الله عنه قويت شوكة المسلمين وأعلنوا بإيمانهم ، كما جاء عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: " كان إسلام عمر فتحاً ، وكانت هجرته نصراً ، وكانت إمارته رحمة . ولقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي في البيت حتى أسلم عمر ، فلما أسلم عمر قاتلهم حتى تركونا فصلينا . وعندما جاء الأمر بالهجرة إلى المدينة هاجر عمر، وتعمد أن يهاجر في العلن ليغيظ الكفار، فطاف بالبيت سبعاً ، ثم أتى المقام فصلى متمكناً ، ثم وقف في كامل سلاحه وقال للمشركين : شاهت الوجوه ، لا يرغم الله إلا هذه المعاطس أي الأنوف من أراد أن تثكله أمه، ويوتم ولده، ويرمل زوجته ، فليلقني وراء هذا الوادي ، فما تبعه أحد . عرف في شبابه بالشدة والقوة، وكانت له مكانة رفيعة في قومه إذ كانت له السفارة في الجاهلية فتبعثه قريش رسولاً إذا ما وقعت الحرب بينهم أو بينهم وبين غيرهم وأصبح الصحابي العظيم الشجاع الحازم الحكيم العادل صاحب الفتوحات وأول من لقب بأمير المؤمنين . وكان من أشراف قريش في الجاهلية والمتحدث الرسمي باسمهم مع القبائل الأخرى . وبلغ - رضي الله عنه - من هيبته أن الناس تركوا الجلوس في الأفنية ، وكان الصبيان إذا رأوه وهم يلعبون فرّوا ، مع أنه لم يكن جبّاراً ولا متكبّراً ، بل كان حاله بعد الولاية كما كان قبلها بل زاد تواضعه ، وكان يسير منفرداً من غير حرس ولا حُجّاب ، ولم يغرّه الأمر ولم تبطره النعمة . شهد عمر جميع الغزوات مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من أقرب الناس إلى قلبه . اشتهر رضي الله عنه بالزهد ، وسعة العلم ، والجرأة في الحق ، وبعدما تولى الخلافة صار مضرب المثل في العدل في زمانه وإلى يومنا هذا . عن ابن عباس قال: أكثروا ذكر عمر، فإنكم إذا ذكرتموه ذكرتم العدل ، وإذا ذكرتم العدل ذكرتم الله تبارك وتعالى . من قصص الفاروق رضي الله عنه أنه كان يمر بالآية من ورده فيسقط حتى - يُزار - منها أياماً كما ذكر ذلك الحسن. عن ابن عباس، قال: لما ولي عمر قيل له : لقد كان بعض الناس أن يحيد هذا الأمر عنك . قال: وما ذاك ؟ قال: يزعمون أنك فظ غليظ . قال: الحمد لله الذي ملأ قلبي لهم رحمة ، وملأ قلوبهم لي رعباً. كان سائراً في طرقات المدينة وتبعته مجموعة من المسلمين فالتفت إليهم فجأة فسقت ركبهم (اهتزت ركبهم خوفاً) فقال مالكم؟ قالوا: هبناك. فقال أظلمتكم في شيء قالوا: لا والله، فقال: اللهم زدنى هيبة. يقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: لو أن عِلم عمر وُضِع في كفه ميزان ووُضِع عِلمُ أحياء الأرض في كفة لرجح عِلم عمر بعلمهم . ويقول أنس - رضي الله عنه : رأيت بين كتفي عمر أربع رقاع في قميصه. وقال قتادة : كان عمر يلبس وهو خليفة ، جُبَّة من صوف مرقوعة بعضها بأدم . وقال عبدالله بن عامر بن ربيعة : حججت مع عمر ، فما ضرب فسطاطاً ، ولا خِباء ، كان يلقي الكساء والنطع على الشجرة ، ويستظل تحته. يقول عبيدالله بن عمر بن حفص: حمل عمر بن الخطاب قربة على كتفه ، فقيل له في ذلك : فقال: إن نفسي أعجبتني فأردت أن أذلها. قال محمد بن سيرين : قَدِم صِهرٌ لعمر عليه ، فطلب أن يعطيه عمر من بيت المال فانتهره عمر ، وقال : أردت أن ألقى الله ملكاً خائناً!؟ فلما كان بعد ذلك أعطاه من صلب ماله عشرة آلاف درهم . قال أنس - رضي الله عنه - : تقرقر بطن عمر من أكل الزيت عام الرمادة ؛ كان قد حرم نفسه السمن ، قال : فنقر بطنه بإصبعه ، وقال : إنه ليس عندنا غيره حتى يحيا الناس - أي غير الزيت -. هذه بعض جوانب شخصية عمر من المهابة والشجاعة وتأدية الحق والجهر به ، وقد اشتهر عمر بالعدل ، وجودة الرأي ، ومضاء العزيمة ، وعلو الهمة والإخلاص في خدمة رسول الله ودين الله عز وجل . أما عدله: فقد سجل التاريخ أروع مظاهره، وسارت الركبان بذكره . وله القصة المعروفة عند الصغير والكبير، والتي قال فيها لعمرو بن العاص رضي الله عنه : ( متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ) . مهما قيل في عمر ، فلن يعدو عمر إلا أن يكون غرسا من غراس المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وثمرة من ثمار جهاده ، سقاها بعرقه ، ورعاها بأخلاقه ، ويبقى الباب مفتوحا للحديث عن عمر ، مرات ومرات ، فحياته مليئة بالعبر ، لا تنقضي أخباره لو سردناها من بعد العشي إلى السحر. وصلى الله وسلم على محمد، ورضي عن أبي بكر وعمر، وجمعنا بهم في جنات ونهر.