ربما، مع مرور الزمان، تبيّن أن للشرق خصوصياته، وللغرب خصوصياته، ولا بد من نقطة ارتكازية يلتقي فيها الشرق والغرب، تحاورياً، وتفاعلياً، وإنسانياً، حيث لا قطيعة ولا صراع ولا سيطرة، وهنا، نكون قد دخلنا إلى المقام الرفيع للتكامل الحضاري، الثقافي، والفني، وهنا، تبدو حركة الأرواح التي تتلاطم مع البعيد لتقربه، ومع القريب لتطوره، ولا يبقى في الأبعاد المنظورة سوى الإنسانية كعامل ودافع وبان ٍ، لا تتخلى عن طاقتها الروحية، التسامحية، التي يحكمها خالق واحد، ومحبة فطرية، لا يشوهها إلا التفكير السيئ. وما بين الاستغراب والاستشراق، كتجربة تاريخية، وحاضرة، وستظل متواجدة في المستقبل، تلمع نقاط عديدة للتواصل الإنساني، أهمها معرفة الآخر، بغية التواصل والحوار معه، لمعرفة الذات أيضاً، وهذا ما تعامل معه "ادوارد سعيد" في كتابه "الاستشراق: المعرفة.. السلطة.. الإنشاء"، بكيفية متوازية، متعاكسة الإسقاطات، بحيث ترى الاستغراب من خلال الاستشراق، والاستشراق من خلال الاستغراب. صحيح أن الاستشراق كان متهماً بغايات سياسية واجتماعية وسلطوية ما، التصقت به لأسباب نشأته، التي تبلورت بشكل ملفت مع بداية القرن الثامن عشر الميلادي، أما ما جاء في تالي الأزمان، فأثبت بأن الاستشراق ليس كله سيئاً، وبالطبع، ليس كله جيداً، لكنه تواصلٌ لا بد منه، للكشف، والتناغم، والتلاقي الجميل بين الناس، وهذا ما أكده استشراق المثقفين غير العرب، كتّاباً، وفنانين، وشعراء، فباحوا بما باحوا، وانطلقوا مع عالمنا، ليس فقط من خلال "ألف ليلة وليلة"، بل، كذلك، ليتوغلوا في عوالم التصوف، أمثال:"ماسينيون"، وفي الشعر والملاحم والفلسفة، أمثال "دانتي"، وهناك الذين تماوجوا مع الحياة الشرقية بكل أبعادها، فجربوا حياة الخيمة، والصحراء، والبحر، والإقامة، والترحال، وجابوا الشام، ومصر، والجزيرة العربية، والمغرب. وكذا، اهتم التشكيليون العالميون، بمشرقنا العربي عامة، وحضارته الإسلامية خاصة، وكأنه فطرتهم الآمنة الأولى، أو إحساسهم المتدافع نحو الطمأنينة الغامضة، الغائبة والحاضرة في ذات الآن، ومنهم: بيكاسو، ديلاكروا، ماتيس، كاندينسكي، بول كلي، وغيرهم.. لدرجة أن الفنان "غوستاف مورو" أطلق هذا الشعار كقاعدة أساسية وجمالية: "الشرق مخزن الفنون، لذلك يجب أن يكون قبلة الفن المعاصر". وإجمالاً، فإن تلك الريشة المستشرقة التي تراءت دلالات ومعان مختلفة، تشع بالعديد من الأسئلة، مضيئة هاجس تلك اللوحات الشرقية التي رسمها الغربيون وسواهم، متحركين مع البعد اللا مرئي لدواخلهم، وهي تنعكس مع اللون وتدرجاته وإيحاءاته وإيماءاته وموسيقاه المتجولة بين الكتلة والفراغ، نتيجة انبهارهم بما شاهدوه، ولمسوه، وتداعوا معه، مانحين المتلقي قراءات متعددة، وأسئلة مختلفة، للعمل الفني الذي هام في رسم العمارة الإسلامية، من مآذن، ومساجد، وباحات، وقباب، وفضاء تأملي مكاني، رصد من خلالها، رؤيته للباطن النوراني، تاركاً البطولة لشخصيات منسجمة مع العمق الجواني، والعمق العلوي، منها "المصلّون"، أو "أفراد العائلة" الجالسة حول المائدة، أو الشخوص المتحركة خارج المسجد ، ومنها شخصية الشيخ، أو إمام المسجد، والتلميذ الطالب، الذي تجسده لوحة "الدرس"، للفنان النمساوي "لودفيغ دويتش، والتي تولي الأهمية لضوء النهار الخارجي "الشمس"، وضوء النهار الداخلي "الروح"، وحركة تلاقي أشعة الضوءين في لحظة زمانية مائجة، تجمع روح الشيخ "المعلّم"، وروح الطفل "التلميذ"، مؤكدة على فسحة من التأمل، لا تولي المكان الواقعي، الجغرافي، أهميته الظاهرة: آثار القِدم، ومرور الزمن، على الجدران، وبساطة التأثيث، وعفوية وضعية الأحذية، مقابل اهتمام التشكيلي بالفراغ الممتلئ بالطموح المندفع، والرغبة في التعلّم والتوغل، تلك التي تتهاطل من وضعية الشخصيتين، وهما في حالة جلسة، تدلّ على أنهما غارقتان، تماماً، في معاني الكلام، ودلالات الوقت، واهتمامات الطفل المتسائل، وشفافية الحوار بين المعلم وتلميذه، وتلك هي النقطة المركزية للوحة التي نقلت الواقع بتسجيلية فنية، لكنها أضافت إليه الأهمية القصوى من خلال هذا التركيز، الذي يصر عليه صفاء الألوان، ودقة وضوحها العميقة، والذي يدل، تسلسلاً، على الزهد في كل شيء مادي زائل، والتمسك بكل ما هو معنوي رفيع من علم وأخلاق، وهذا ما تعكسه لوحة "الدرس" أيضاً، للفنان النمساوي "رودولف آرنست"، الذي يجعل من شخصية الشيخ الوقور مجسداً لشخصية المعلم الروحاني، الذي يتلو، ويقرأ، على طلابه الصغار، اليافعين، بجوارحه، محاولاً، قدر استطاعته، أن يوصل لهم المعنى، ودلالات الكلمات وإشاراتها، وكأنه يعلمهم "فن الإصغاء" والتواصل والتفكير، بطقس من الإمعان، والاسترسال والتشويق، وهذا ما تكسبه جمالياته، انسيابية الخطوط، وسهولة حركتها اللونية، المتكاملة مع موسيقى المكان، بمنمنماته، وإيحاءاته، وتداعيات الضوء والظل، مما يجعل الهدوء مرآة لحالة درامية، تتملص من المشهد واللوحة، لتدخل بانجذاب إلى المتلقي، فيتقمص تلك الحالة، ليكون مرة، أحد التلامذة الثلاثة، ومرة ، الشيخ المعلم، ومرة الفنان. أما لوحة "بوابة المسجد الأموي" للفنان الألماني "غوستاف بورنفيند"، فنلاحظ كيف تعكس عناصر الحياة، من حركة وناس وبناء، مع الاهتمام بالزخرفة الكتابية والفنية، المنقوشة على الباب الكبير، والجدران، وقنطرة البوابات، والتركيز على نقطة الالتقاء بين السماء والمكان والناس، وكأن تلك النقطة هي إطلالة عمودية وأفقية على الوجود والغيب في آن معاً، وهي منفتحة بشكل ارتدادي انتشاري على مسحة اللون الغائم إلى حد ما، وهو يتدرج في الحرارة، والانكشاف، تبدو، بحالة متقاربة، إلى لوحة "داخل المسجد الأموي"، للفنان الإنكليزي فريدريك لايتون، لكن، من زاوية تبئيرية أخرى: "زوم آوت Zoom Out"، كونها تركّز على الفضاء المكاني الداخلي، على تكامل متناغم إلى حد ما، مع لوحة "بورنفيند" المعتمدة على "الزوم إن Zoom In"، وما يجول فيه من مفردات تبتهل بين فراغ مترنّم، وفراغ متسرنم، تبعاً لتجوالات روح شخوص اللوحة: الإمام الشيخ، وهو يدعو بخشوع، المصلّي غير المكترث بما حوله، الفتاتان المرتديتان للزي الفلكلوري المألوف، وهما تمشيان منتبهتين إلى لحظة تطفو بالطمأنينة والدهشة، والمرأتان البارزتان بثياب الصلاة البيضاء في يمين اللوحة، كل ذلك يتداخل مع الصمت المطمئن، السابح في المكان، المسافر بين الزخارف الخشبية، والنقوش اللونية، والتطريز المحفور على الجدران، وأعلى البوابة، والأشكال الهندسية الأخرى، كالنجمة، المعين، المثلث، الهلال، الدوائر، والأضواء التي ستهمس بها الثريات النازلات مثل مطر معلّق، تزيد في احتمالاته الجمالية تدرجات الرموز اللونية: الأخضر ودلالاته الخالدة، الأزرق اللازوردي المنشد، الأصفر الشهدي، أو الشمعي، المتداعي مع لون النهار، الأحمر وحيويته الحياتية، الهابطة من الأرجواني الكثيف إلى تدرجات البرتقالي ثم الترابي، وبالتالي، انسجام هذه البنية العناصرية للمفردات من شخوص وصمت وزركشة ولون مع تشكيلات البلاط وألوانه وأشكاله، مما يؤكد الميزة الخاصة بفن العمارة الإسلامية آنذاك. نتراءى كيف سجّل الفنان التفاصيل الصغيرة أيضاً، فجعل عمله الفني لوحة تصويرية، لم تلتقطها عدسة الكاميرا، بل عكستها عين المبدع الذي يرى بقلبه ما هو غير موجود، فيقبض عليه، ويتركه متحركاً بين الفسحة والنافذة والأبواب وضمائر الشخصيات، ليتسرب، خلسة، ويتجه إلى الأعلى، ليختلط بالأبيض السماوي، وباللازورد المضاء بالأصفر الشفيف. وتبرز لوحة "قارئ القرآن" للفنان الإنكليزي "جون فريدريك لويس"، حالة من الوقار، والطمأنينة الباحثة عن المغزى الغامض، راصدة أدق تفاصيل الجلسة، من أزياء، وسجاد، وأرابيسك، ووحدة تبدو أقرب إلى العزلة إلا أنها أقرب إلى التداخل مع "وحدة الوجود" التي أكد عليها الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، المرصودة من خلال قضبان النافذة المطلة على فسحة مكانية يتسرب منها الضوء على الكائنات المتآلفة، كالقطة الآمنة، وآنية الورد، حيث اختار الفنان للتويجات اللونين: الأبيض والأرجواني، قاصداً بالأبيض الإحالة على السلام، واللا نهائيات، ودورة نقطة الباء، ونقطة النون، والهدوء المزدحم بالتفكير والتفكّر، بينما أسقط على الأرجواني أبعاد الحيوية والحرارة والتأمل المتأصل، كمقام يتناغم مع الاحتمالات والألوان، ويشتبك مع ضدية الأبيض، ليفرد أجنحة لا مرئية على المحيط المكاني، ذي الخلفية السوداء الستارة، لتتسلل الدلالات، مرة واحدة، إلى الفضاء الخارجي، ولتنعكس إلى العوالم الجوانية لكل من القارئ العجوز، المبحر، في أعماق الكلمة الطيبة، وقارئ اللوحة.