يبدو أن المناخ العالمي، والمتغيرات المتلاحقة، ونعمة وسائل التواصل الحديثة، فتحت الأبواب للجميع الاشتغال بالثقافة، بل أصبحت طريقا سريعا لمن يريد الوصول إلى قمة الاهتمام بأقصر السبل وأيسرها، وكذلك ظاهرة الانتشار الواسع للنشاطات الثقافية هنا وهناك، من معارض، ومسارح، وندوات، وإصدارات مكثفة مع تشابهها شكلا ومضمونا، جعلت الفرد منا يتساءل هل أصبحنا فجأة شعبا يؤمن بأهمية تلك النشاطات حتى تنتشر فيما بيننا كما هو الحاصل الآن؟ وهل العمل الثقافي بكل محدداته ومعطياته ملك للجميع؟ أين المثقف الحقيقي، وهل اختفى دوره في مجتمعنا؟ هذه تساؤلات تبحث عن إجابات مقنعة وسط الحراك الثقافي الحالي. انتشار النشاطات الثقافية تقليد اجتماعي أم رسم خريطة جديدة يقول الناقد الدكتور سلطان القحطاني حول ذلك: إن انتشار النشاطات الثقافية ظاهرة صحية في المجتمع من حيث المبدأ ولكن يحتاج هذا الانتشار إلى تنظيم ثقافي اجتماعي، بحيث يتم التنسيق بين الجهات التي تقيم نشاطاتها ويستفيد كل منها من تجارب الآخرين، فعندما تقام فعالية من الفعاليات الثقافية يجب ألا يتزامن معها نشاط آخر، ويجب على المعنيين بالنشاطات الأخرى الحضور والتفاعل مع مفردات الفعالية نفسها والاستفادة مما قدم فيها، ولا تكون تقليدا لفعاليات أخرى، مضيفا أن المثقف والباحث عن الثقافة أصبح يدرك هذا الكم الكبير وما فيه من تكرار ممل، ما جعل كثيرين ينفرون من الحضور لعلمه أن هذه الفعالية صورة منسوخة من أخرى سبقتها، مبرزا أهمية وجود مستشارين للجهة القائمة بالفعالية وتنسيق جدولها مسبقا حتى لا تقع في التكرارية، قائلا هذا ما يمكن أن نسميه رسم خريطة جماعية للثقافة بمشاركة كل الأطراف. عبدالله الزيد الزيد: كل الشواهد في المشهد الثقافي تشير إلى ما يشبه اليأس أما الشاعر والإعلامي الأستاذ عبدالله بن عبدالرحمن الزيد فيقول: عند تناول النشاطات الثقافية وتحليل مدلولاتها ومترتباتها، فإننا أمام نوعين مختلفين من هذه النشاطات وخاصة فيما يتعلق بالندوات والملتقيات والأمسيات، النوع الأول: ما يتم عن طريق المؤسسات الحكومية والقنوات الرسمية مثل الأندية الأدبية وجمعيات الثقافة والفنون والجامعات وما إليها، وهذا النوع لا غبار عليه ولا يعد تقليدا اجتماعيا وإنما واجب وضرورة ومسؤولية حتى أهدافه ومحصلاته ثقافية خالصة إلا إذا تم توظيفها من قبل بعض المسئولين عنها لأغراض شخصية ومكاسب ذاتية. أما النوع الآخر هو ما يتم تنظيمه من قبل بعض الشخصيات أو الأسر على شكل مناسبة أسبوعية أو شهرية وهذا النوع هو التقليد بذاته وهو العادة والاعتياد بعينه؛ لأنه في شكله وطريقة إعداده وتنفيذه ما هو إلا امتداد كلاسيكي للديوانيات والصوالين القديمة، بالرغم ما قد يتم فيه من تمثيل لأدوار ثقافية إلا أنه لا علاقة له بالثقافة من قريب أو بعيد لا في من يقوم بإعداده وتنفيذه، ولا في من يأتون إليه ويحضرون، فالممارسة والأهداف غير ثقافية قولا واحدا. المزيني: المثقف الحقيقي لا يبحث عن دور يتقلده بل هو من يفرض وعيه وإرادته كما يضيف الأستاذ عبدالله الزيد قائلا: أما مسألة (رسم الخريطة الثقافية الجديدة) فتلك مسألة ومسؤول كبيرة وخطرة جدا لا أتصور أن النوعين السابقين من الملتقيات والأمسيات قادران حاليا على تلك المهمة، لأن الأسباب والدوافع والتنفيذ والمحصلات باختصار من مهمات وتخصص العمل المؤسساتي والاستراتيجيات المدروسة وذلك ما لم نصل إليه حتى الآن في كافة أعمالنا ومهماتنا الثقافية، من جهته تمنى الكاتب والروائي محمد المزيني لو تحول العمل الثقافي لدينا إلى تقليد اجتماعي فهذه في وجهة نظره مرحلة متقدمة جدا في حياة الشعوب فعندما تتداول الثقافة بين أطراف المجتمع من أطفال ونساء ورجال كأي شيء عندها فقط نقول إننا أمة مثقفة تجاوزت الأمية بكل أنواعها. محمد المزيني هل أصبح العمل الثقافي مشاعاً للجميع؟ هنا يؤكد الشاعر والإعلامي عبدالله الزيد أن لا احد يستطيع أن يحاسب أحدا على ما يقوم به أو يدعيه، وبخاصة أن العمل الثقافي أو المجال الثقافي فضاء مفتوح وحق مشروع لكل من يستطيع أن يقدم نفسه لكن لدينا ثلاث (مرجعيات) إذا صح التعبير لن يفلت منها أحد بحال من الأحوال منها (الزمان) الذي يقال عنه: إنه الناقد الأعظم ويشتمل على محصلتين كبيرتين هما: أن البقاء للأصلح وأنه لا يصح إلا الصحيح، كذلك هناك (الجمهور الواعي) الذي يدرك ويعرف الحقيقي من المزيف ومن الطبيعي أن لكل فن وإبداع جمهوره. أيضا (النقد) فمن خلال التجارب والشواهد على مر العصور قال النقد الحقيقي كلمته ووقع الناقد الحصيف على وثائق التجلي والعبقرية فقط وقديما قيل وبضدها تتميز الأشياء. كما يضيف الدكتور سلطان القحطاني قائلا: يجب في الظروف الحالية أن يكون العمل الثقافي لكل الناس، فلم يعد المثقف من يقرأ ويكتب فقط كما كان في السابق، فالعمل الثقافي اليوم ملك كل الناس، لأن الثقافة اليوم منتشرة في كل وسيلة إعلامية وبين الناس أنفسهم، لكن لا ننسى دور المثقف في المجتمع. موضحا ليس المثقف ذلك النخبوي المتقوقع على نفسه بين جدران مكتبته، إنما المثقف اليوم من يشارك المجتمع في كل مناسبة ويبدي رأيه فيما يدور ويشجع الآخرين على طرح آرائهم في زمن الحوار والشفافية وإلغاء الصوت الأحادي، والتفاعل مع صوت المجتمع. المثقف الحقيقي والدور المفقود يقول الروائي والكاتب محمد المزيني إن المثقف الحقيقي لا يبحث عن دور يتقلده، بل هو من يقتحم الفضاء ويفرض إرادته ووعيه على المجتمع، فدوره التنويري يفرض عليه الخروج من قمقمه وينزل من برجه العاجي ويقدم مالديه، طبعا ربما سيكابد في البداية اعتراف المجتمع به، إنما هذا لا يثنيه عن عزمه في إيصال رسالته التنويرية. أما الدكتور سلطان القحطاني فيؤكد أن المثقف الحقيقي باق ما بقيت الثقافة وما يظهر في الساحة الثقافية من حين لآخر من أصوات تتعلق على حبال الثقافة، إنما هي حالات طبيعية يفرضها الظرف الزمني ولا يبقى إلا الصوت الثقافي الحقيقي، وهنا لا يجب علينا الوقوف في وجه كل من يتعلق بالثقافة بل نتركه للزمن والظروف، فإن طور نفسه فمن حقه أن يقدم ما ينفع الناس، وإلا سيتلاشى تدريجيا إلى أن يغيب كما غاب غيره من جهته. يطرح الأستاذ عبدالله الزيد سؤاله التالي هل مجتمعنا مهيأ ومؤهل لأن تكون فيه أدوار ثقافية ومن أي نوع؟ ثم يعود فيجيب قائلا الشواهد والحالات تشير إلى ما يشبه اليأس، لا نذهب بعيدا دعونا نبحث في جوانب الإجابة عن هذا التساؤل العادي جدا: لوكان مجتمعنا قابلا للتحول والتفوق ومترتبات العبقرية الثقافية هل من المعقول أنه بعد هذه العقود والسنوات من العلم والدراسة والمناشط الثقافية المختلفة أن تطغى العامية وبهذا الشكل المرعب على الفكر والتعبير؟؟؟ كما يتسأل الأستاذ الزيد أي دور يمكن أن نتصوره للمثقف الحقيقي هذا إذا آمنا أصلا بوجود المثقف الحقيقي كاشفا عن قناعته قائلا الذي أراه بأنه تكويني ولا مناص من الاعتراف به هو: أن مباهج التسطيح والضمور والانقراض هي السائدة الآن.