على أي طريق سريع وفي أي مكان في العالم لو استوقفتَ المسافرين كلهم وسألتهم إلى أين وجهتكم سيخبرونك جميعا لماذا هم يستخدمون هذا الطريق والى أين ستكون وجهتهم، ومتى يتوقعون أن يصلوا إلى هناك، وماذا سيفعلون إذا وصلوا؟ هؤلاء المسافرون لن تجد من بينهم من لا يعرف إلى أين هو ذاهب ولماذا. ولكن هل لكم أن تتصوروا أن من بين من استوقفتهم لتسألهم مركبة تحمل على مقاعدها خمسة ملايين، إنسان وعندما تسأل من في هذه المركبة العجيبة إلى أين تذهبون بهذا العدد الكبير من البشر سيقولون لك إننا نسير فتقول صحيح انتم تسيرون ولكن إلى أين ؟؟!! ثم تعيد إلى أين تسيرون بعدها تفقد كل معايير التركيز لأن كل فرد من قادة هذه المركبة له وجهة يقصدها لهذا تكتشف أن هذه المركبة تسير ولكن دون وجهة واضحة. داخل هذه المركبة هناك تنظيم وأقسام وبشر يعملون ولكن هناك خلط شديد الوضوح بين الأنظمة، وبين التطبيقات ووضوح الهدف، في مؤسساتنا الحكومية هناك أنظمة تستخدم المال والوقت والسلطة ولكن بدون تطبيقات واستراتيجيات واضحة المعالم. لا أحد يعلم إلى أين تذهب المركبة سوى مفهوم الوقت لأنه وبعد اثنتي عشرة سنة يجب أن يتم إنزال كل طالب يكمل هذه المدة من هذه المركبة بغض النظر عن المحطة، ولاماذا يحمل أوكيف..؟ ليس تحاملًا على مؤسسة التربية أو مسؤوليها فهم يبذلون جهدا لايمكن إنكاره لأنهم يقودون المركبة ولكنني متأكد أنهم يدركون ما أتحدث عنه، ويرغبون في نقاشه ففي مخططات مؤسستنا الحكومية يتم قضاء معظم الوقت في إدارة الأزمات الطارئة ولكن ليس هناك بديل استراتيجي وخطط ولذلك يذهب جلّ الوقت للمسؤولين في إدارة العمل اليومي بينما يغيب التخطيط السنوي. الأزمة في تعليمنا تكمن في أن الخطط التي يتم الحديث عنها توجد بأشكال عدة في رؤوس العاملين في مجال التعليم. قيادات الوزارة لها تصور خاص للخطط التربوية، والمعلمون والمعلمات لا يحملون نفس التصور، والطلاب أيضا لا يحملون نفس التصور، والآباء والأمهات لا يحملون نفس التصور، والمناهج والمقررات لا تحمل نفس التصور .. الخ لذلك كل منا له أفقه الخاص في العملية التربوية. الجميع يحمل فكرة مقدسة عن التعليم في مخيلته ويدافع عنها ولكن لا احد يتفق على فكرة موحدة، ولذلك يعاني التعليم لدينا من فكرة رفيعة مقسمة بينه وبين العاملين داخله، وبينه وبين المجتمع وكذلك الحكومة. هذه الفكرة تجعلنا نتساءل عن وزارة التربية هل هي مؤسسة مكتملة الأنظمة والتنظيم أم ينقصها الكثير من ذلك؟ ولماذا لا تتطابق الأهداف المشتركة بين الشركاء في التعليم؟ هذه قضية ثقافية ومجتمعية لم يناقشها المجتمع أو مؤسسة التعليم يوما وانظر إلى أي حديث تثار فيه قضية المناهج سوف تدرك الأفكار المقدسة التي يحملها كلّ منا في مخيلته حول المناهج. عندما تكون وليّ أمر لطفل يكمل عامه السادس وتأخذه لتسجله في المدرسة ولكنك قبل أن تفعل ذلك قررت أن توجه هذه الأسئلة للمسؤولين عن المدارس حيث سيقضي ابنك اثني عشر عاما قادمة من عمره: هذه الأسئلة هي ماذا أتوقع من ابني أن يتعلم خلال عامه الأول في كل المجالات ولماذا..؟ وكيف سيحدث ذلك وكيف يمكن قياس ذلك ...؟ لا أعتقد أن الإجابة ستكون سهلة لأنه لايوجد في أهداف أي مرحلة تعليمية لدينا ما يدل على ماذا يجب أن يتعلم الأطفال ففي أهداف المرحلة الابتدائية القائمة حاليا لايوجد هدف يمكن قياسه بطرق علمية.. الموجود قيم مرصوصة على شكل تعليمات ليس لها حدود فكرية أو تطبيقية كما ينطبق ذلك على المرحل جميعا ؛ حيث القيم التي يصعب قياسها بل هي موجودة بطريقة فضفاضة. إحدى أزمات التعليم لدينا هذه المرونة المطلقة في أهداف التعليم وكذلك عدم معرفتنا في فهم الفرق بين القيم، وبين الأهداف فالقيمة دائما إطار فلسفي بينما الهدف إطار تطبيقي محدد بشكل دقيق فمثلا إذا كان هدفي أن يتعلم ابني في المرحلة الابتدائية وفي الصف الأول العمليات الحسابية فليس أمامي في نهاية العام الدراسي سوى أن أقيس هذا الهدف وأختبر نجاحه. مؤسساتنا التربوية هي في حقيقتها طبقات متراكمة فوق بعضها الأولى طبقة الوزارة وهي طبقة بيروقراطية كل ما يجري فيها عمل إداري تنظيمي حتى فيما يتعلق بالمنهاج والمقررات فكل ما يجري هو مجرد معاملات وأرقام، الطبقة الثانية هي طبقة إدارات التربية والتعليم وهي مقسومة إلى قسمين: القسم الأول بيروقراطي تماشيا مع طبقة الوزارة والجانب الآخر تطبيقي حيث تكون مسؤولة عن المدارس ولكنها تتحول في هذا الجانب إلى مؤسسة تنظيم المعلمين وتوزيعهم، وتعيين المشرفين ومديري المدارس ومراقبة سير العملية التعليمية بجانبها التنظيمي وليس بجانبها العلمي. الطبقة الثالثة هي المدارس وهي مصب طبيعي لكل ما يحدث في الطبقتين اللتين تعلوانها: الوزارة وإدارات التربية والتعليم ولأن ما يعلو المدارس من طبقات غير مطلع على الصورة الحقيقية لما يجري على ارض الواقع لذلك تنقسم المدرسة إلى قسمين أيضا جزء لاستقبال التعاميم أو ما يسمى باللغة العلمية القرارات القادمة من الأعلى، وقسم لتنظيم الجداول الدراسية والمعلمين. وقسم لمحاولة فهم ما يجري في العملية التعليمة وهذه هي أهم نقطة حيث يصعب على المدارس أن تفهم لماذا تحدث كل هذه المشكلات في العملية التعليمية بين طلابها ومعلميها في جانبها العلمي وجانبها السلوكي، وهنا تختلط الأوراق حيث يصعب تطبيق جميع تعامييم طبقة الوزارة وطبقة إدارة التربية والتعليم لأن الواقع الطلابي مختلف تماما عن الصورة التي تراها الوزارة أو إدارة التربية والتعليم. مدارسنا تفقد السيطرة على العملية التعليمية بشكل تدريجي وهذا يفقدها السيطرة على الجانب الأخلاقي والسلوكي في المدارس ليس بسبب كبير بل بسبب صغير جدا وهو عدم تطابق رؤيتنا ووحدتها لعملية تعليمية ذات أهداف واضحة في كل خطوة منها ، فمثال المركبة على الطريق السريع في مقدمة هذا المقال والتي تحمل خمسة ملايين طالب وآلافاً من القياديين والمساعدين ولكن أحداً من هؤلاء لا تنطبق أهدافه ووجهة هذه المركبة مع الآخر لذلك هو يسير ويسير فقط إلى أين لا احد يعلم فما يستخدم في هذه المركبة هو المال والسلطة والتنظيم فقط. المشكلة أزلية ومرتبطة بعدم قدرتنا على التغير والتغيير في مسارات كثيرة؛ فاليوم تحولت المدارس إلى مؤسسات تغلق أبوابها على الطلاب لمدة ست ساعات يوميا يرعاهم معلمون حائرون بين ما يشاهدونه على ارض الواقع، وبين ما يصلهم من خارج مدرستهم لهذا السبب أصبح التعليم مسرحا يمكن استئجاره وتنفيذ الأعمال المختلفة على خشبته ، ولكن لابد من توجيه تحية إلى هؤلاء المعلمين والمعلمات الذين يجدون أنفسهم في معمعة لها أول وليس لها نهاية فلا هم قادرون على تفسير إخفاق منتجات التعليم تربويا وعلميا، ولا المسؤولون قادرون على ذلك أيضا ولكن مع ذلك فلا زالت المركبة المحملة بخمسة ملايين إنسان تسير على نفس الطريق السريع لمن أراد مشاهدتها..