الأسرة والمجتمع والدولة أنظمة تتشابه في قوانينها الاجتماعية وتأثيرها على سلوك الفرد، فتأثير الضغوط الأسرية وما تخلفه من اضطرابات نفسية تماثل تأثير الضغوط القمعية السياسية. سياسة الحكم في بعض الدول قائمة على القمع والإذلال لحد أن أحد الليبيين يذكر لي أن الخوف بلغ منا مبلغه، حتى أننا لا نستطيع أن نبحلق في سور العزيزية الخاص بالرئيس معمر، ويذكر أحد السوريين أن الرعب بلغ منتهاه لدرجة أن بُث في عقولنا أن مجرد الإشارة باليد نحو قصر الرئيس يعد إجراماً شنيعاً يستحق عقوبة الإعدام.. هكذا وصلت الأنظمة القمعية وأوصلت لشعوبها المخاوف والكآبة، وزرعت في نفوسهم أوهام سلطة توجد أجهزة استخباراتها حتى في غرف نومهم. الشعوب المسكينة والمغلوب على أمرها لا تمشي فقط وفق ما تمليه عليه أنظمة الدولة بل إنها مع الوقت تمرض وتمرض ويتأصل لديها مستوى الخوف والمذلة وتصبح الحياة فاقدة لمعناها الحقيقي. هذا هو الاضطراب النفسي السياسي، فحينما تمارس الأنظمة القمعية للدولة مستوى شديدا من الاذلال لشعبها يخرج اضطراب القلق السياسي، وحينما تخوف الدولة شعبها في كل شيء يخرج الفصام السياسي الذي يقود الفرد إلى التشكيك في أن كل عينه يمثل تجسساً من مخابرات الدولة. عندما رفع الشعب السوري شعار الموت ولا المذلة كان يعي تماماً أن الحياة بمشاعر المذلة والمهانة ليست بحياة، وأن الموت والشهادة أجل واسمى بكثير من العيش في ضنك الضيق والكآبة، وبالفعل فالذين دخلوا في فخ الاكتئاب رغماً عن أنوفم فضلوا الانتحار على أن يعيشوا بملازمة الكآبة. هذا الخيار الذي سلكه الشعب السوري (الموت ولا المذلة) هو خيار منطقي، له أرضية فطرية، أما خيار النظام، وهو الاستمرار في القمع والإذلال فهو خيار خاسر؛ لأنه مهما طال القمع والصراع فإن الشعب لن يرضخ، وهنالك حقيقة مفادها إن حياة الشعوب أطول من حياة حاكميها. ويمثل ربيع الثورات العربية متنفساً فريداً لشم رائحة الحرية والانفكاك من قيود الخوف والمهابة، فبعدما ذاقت شعوب المنطقة طعم الحرية فلن ترضى عنها بأي بديل، مهما كان، واحدة من المصريات في اليوم نفسه الذي نجحت فيه الثورة، عبرت عن فرحها في شوارع القاهرة وصرخت بأعلى صوتها، وكأنها تفرغ شحنة من كآبة داخلها، قالت: ما فيه خوف تاني، ما فيه صمت تاني، أحس أني اتولدت من جديد، خلاص للخوف، طعم الحرية. كذلك أحد التونسيين بعد نجاح الثورة التونسية كان يمشي بتلقائية في الشارع يخاطب نفسه: يحيا شعب تونس العظيم، الحرية للتوانسة، تنفسنا الحرية، ما تخافوا من حد، البقاء للشعب. وفي هذا يؤكد المختصون في علم النفس السياسي على صحة ظاهرة انعكاس النظام السياسي على الخصائص النفسية للشعوب، وأن الشعوب التي تعيش تحت نظام سياسي عادل حر تثق بنفسها، وتصدق في انتمائها لوطنها، أما التي تعيش تحت نظام سياسي دكتاتوري قمعي فإنها تصبح مخنوقة خائفة، لا تخلص من خدمة وطنها، ولذا يقال عندما ترى شعباً مزدهراً سعيداً فأعلم أن خلفه نظاماً سياسياً عادلاً حراً، وعندما ترى شعباً مكسوراً مذلولاً فأعلم أن نظاماً قمعياً يقف خلفه. القذافي: قراءة نفسية من العجب أن يأتي شخص واحد يلعب بنفسية أمة بأكملها، كما هو حال معمر القذافي، حيث استطاع بعد توليه الحكم أن يسير مشاعر الناس، وأفكارهم وفق هواه ومزاجه. قد يكون من الغريب أن يتمكن شخص واحد من تكميم أمة بأكملها، والحقيقة أن هذا الأمر ليس بغريب في قوانين الجماعات، فنظام تجمع الأسرة، ونظام تجمع المؤسسة، ونظام تجمع الدولة، هو نظام واحد تحكمه قوانين اجتماعية نفسية واحدة، فكما أن بوسعك أن تتقبل صورة تأثير شخصية سلطة الأب في جميع أسرته، وكما يمكنك أن تتقبل تأثير شخصية سلطة مدير المؤسسة في جميع أعضائها، فإنه بنفس النظام يمكن تقبل تأثير شخصية سلطة الحاكم في جميع أفراد شعبه. هنالك عامل نفسي آخر له دور في المعادلة النفسية للشعوب، وهو الخصائص النفسية للحاكم، خصوصاً عندما تكون شخصيته شاذة كشخصية معمر القذافي، التي تحدث عنها كثير من المختصين بعلم النفس والطب النفسي، بمن فيهم المختصون الليبيون، ولذا قد يكون من الأنسب إفراد اضطراب نفسي جديد يسمى بمتلازمة معمر. لعلي أقتطف بعض ما تناولته أجهزة الإعلام حول حياة القذافي، ثم نأتي لتحليل شخصيته، يقول معمر عن نفسه: «أنا ملك ملوك العرب.. أنا ملك افريقيا.. أنا..» وعندما يقولها لا يقولها مخادعاً للناس من حوله، بل يقولها وهو مقتنع بصدقها. وفي وصف عبدالسلام جلود الرجل الثاني بعد القذافي يقول جلود: (لاحظت ابن القذافي سيف الإسلام عندما يريد طلباً من أبيه يمهد لطلبه بضربة تحية عسكرية لوالده، ولما قلت لسيف القذافي: لماذا تعمل ذلك وأنت في مجلس عائلي مع أبيك، أجابه: إنك تعرف جبروت أبي واستمتاعه بخضوع الآخرين له، فهو لا يلبي طلباً إلا بهذا الأسلوب). من جانب آخر عمل القذافي جرائم بشعة وغير مبررة مثل اسقاط طائرة لوكربي، وجرائم سجن أبو سليم، وتسميمه عددا من الأطفال الليبيين بالإيدز، وتوعده بقتل الليبيين ليرجع عددهم ل 2 مليون، وعدم تردده في استخدام أسلحة الدمار الشامل لو كانت في متناول يده. مما سبق يتبين أن القذافي شخصية تجمع بين أمرين هما: النرجسية والسادية. وما يجعل القذافي ظاهرة نفسية مختلفة هو أن درجة نرجسيته ودرجة ساديته مرتفعتان لأبعد حد، فتأتي النرجسية لتغذي جانب جبروته وفخره وإعجابه بعظمة نفسه، ولكي يشعر بالجبروت يخضع كل شيء لإرادته وتدبيره، وتأتي ساديته من جانب آخر لتدفعه للقيام بأي نوع من البطش والعدوان، يشبع به شعوره بالجبروت والعظمة، وبالجملة، فمعادلة القذافي ببساطة: نرجسية عالية وغرور وتعال يساعد على تغذيتها سادية عالية وطغيان شرس. ويخطئ بعضهم في تصنيف القذافي بأنه شخصية ميكافيللية؛ لأن المكافيللي يبرر لنفسه القيام بأي شيء لأجل مصلحته، لكن القذافي يبرر لنفسه القيام بأي شيء ليس لأجل مصلحته وإنما لأجل إرضاء نرجسيته ومزاجه. فالأهم من مصلحته هو مشاعر غطرسته وجبروته. ومن المؤكد أن القذافي لو حوكم فإنه سيسفه من حوله وسيعتبر نفسه أنه هو المنتصر، وربما تسفر المحاكمة عن خطابات يضحك لها الجميع تبين بالفعل جنونه وعيشه خارج نطاق الواقع. كل تمنياتي برؤية فيلم كوميدي عن محاكمة القذافي. *جامعة الملك سعود - قسم علم النفس