إذا كانت الأفكار، كما قيل، ملقاة على قارعة الطريق يلتقطها من يلتقطها، فإن الأمر نفسه، وفي وقتنا الراهن تحديداً، ينطبق على التجارب التنموية للدول، إذ هي متاحة للجميع عبر الكتابات والمطبوعات والدراسات المتخصصة، بل من خلال ضغطة على زر جهاز الحاسب الآلي، وبالتالي لم نعد في حاجة لاختراع العجلة من جديد، كما يقال، أو البداية من أول السطر، إذ إن الأمر يتطلب فقط الوقوف على آخر سطر توصل إليه الآخرون، والاستفادة مما قبله من أجل الانطلاق لما بعده. إن التجارب التنموية العالمية التي مرت بها الكثير من الدول متاحة للاستفادة منها بعد تحليلها والوقوف على الخيوط المشتركة بينها. وإذا كانت الشركات ومؤسسات الأعمال من خلال مناهج إدارة الأعمال تقوم بتدريس وتدريب موظفيها على ما يسمى بدراسة الحالة، والتي تقوم على استعراض التجارب الناجحة، أو حتى تلك التي لم يكتب لها النجاح، من أجل الاستفادة من الأولى وتجنب الأسباب التي أدت إلى فشل الثانية، فإن الحكومات، في عصر المنافسة العالمية، بحاجة إلى اتباع نفس الأسلوب للوقوف على عوامل نجاح، وأحياناً فشل، التجارب التنموية للدول من أجل الأخذ ببواعث النجاح، وتفادي عوامل الفشل بعيداً عن إهدار الكثير من الوقت والجهد، بل واتباع أساليب المحاولة والخطأ للوصول إلى ما توصل إليه الآخرون. أكتب ذلك وأمامي تجربة لفتت الأنظار على مستوى المنطقة، بل على مستوى العالم، لدولة مجاورة استطاعت أن تقفز درجات متقدمة في مسارها التنموي في فترة زمنية وجيزة لم تتعد العشرة أعوام، وأعني بذلك التجربة التركية. بدأت تركيا إصلاحاتها الاقتصادية عام 1999 وفق رؤية مقدمة من صندوق النقد الدولي، كما يذكر ذلك الدكتور إبراهيم أوزتورك في كتاب «تركيا بين تحديات الداخل ورهانات الخارج» وهي إصلاحات انتهت بأزمة اقتصادية سنة 2001م كان من نتائجها انخفاض معدلات النمو، وزيادة معدلات التضخم وارتفاع سعر الفائدة، وكذلك ارتفاع معدل العجز في خزينة الدولة. ومن ذلك، كما يشير الدكتور اوزتورك، تعلم الأتراك الدرس وتبنوا خطة للعلاج كان من نتائجها خلال الفترة من 2002 إلى 2008 استمرار معدلات النمو في الصعود بمعدل قدره 6.8٪ باستثناء سنة الأزمة المالية 2008، وزيادة الناتج المحلي من 350 مليارا سنة 2002 إلى 750 مليارا عام 2008، كما ارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الاجمالي من 3300 دولار سنة 2002 إلى 10000 سنة 2008 وكذلك زاد حجم الصادرات من 33 مليار دولار إلى 130 مليارا في نفس الفترة، هذا إضافة إلى ارتفاع حجم الاستثمار والانتاج واستثمارات القطاع الخاص وغير ذلك من المؤشرات التنموية والاقتصادية الملفتة للنظر، بل إن الملفت للنظر هو انعكاس ذلك على الدور السياسي والعسكري الذي بدأت تمارسه تركيا في المنطقة، بعد ادراكها لقوتها الداخلية المرتكزة على خطط اقتصادية وتنموية انعكست آثارها على أرض الواقع بكل وضوح. إن تجارب ناجحة لدول مثل تركيا وماليزيا وسنغافورة وغيرها من الدول، بحاجة إلى التحليل والدراسة للاستفادة منها والوقوف على عوامل النجاح التي حققت لتلك الدول ما تحقق لها من قفزات تنموية، وإن كان المتأمل يلحظ أن توفر عناصر مثل حسن الإدارة وتوفر العدالة والنزاهة كان قاسماً مشتركاً لنجاحات تلك الدول، إلا أن الدراسة المتعمقة والتحليل الشامل كفيلان بإعطاء تصور أوضح وأدق لمن أراد أن يختصر الزمن للحاق بركب المنافسة الدولية..