قال أحدهم سألت أبا الندى- وكان من أعلم من شاهدت بأخبار العرب: هل تعرف من شعر الذلفاء بنت الأبيض في ابن عمها نجدة بن الأسود؟ قال: نعم، كنت فيمن حضر جنازة نجدة، حتى وضعناه في قبره، وأهلنا عليه التراب، وصدرنا عنه غير بعيد، فأقبلت نسوة يتهادين، فيهن امرأة قد فاقتهن طولا، كالغض الرطب، وإذا هي الذلفاء؛ فاقبلت حتى أكبت على القبر، وبكت بكاء محرقاً، وأظهرت من وجدها ما خفن معه على نفسها، فقلن لها: يا ذلفا؛ إنه قد مات السادات من قومك قبل نجدة، فهل رأيت نساءهم قتلن أنفسهن عليهم؟ فلم يزلن بها حتى قامت، فانصرفت عن القبر، فلما صارت منه غير بعيد عطفت بوجهها عليه، وقالت: سئمت حياتي حين فارقت قبره ورحت وماء العين ينهل هامله وقالت نساء الحي: قد مات قبله شريف فلم تهلك عليه حلائله صدقن، لقد مات الرجال ولم يمت كنجدة من إخوانه من يعادله فتى لم يضق عن جسمه لحد قبره وقد وسع الأرض الفضاء فضائله قال: فقلت: أحسنت والله يا أبا الندى وأحسنت! فهل تعرف من شعرها شيئاً آخر؟ قال: نعم! كنت ممن حضر قبر نجدة عند زيارتها إياه لتمام الحول، فرأيتها قد أقبلت حتى أكبت على القبر، وبكت بكاء شديداً، وقالت: يا قبر نجدة لم أهجرك مقلية ولاجفوتك من صبري ولا جلد لكن بكيتك حتى لم أجد مدداً من الدموع ولا عوناً من الكمد وآيستنى جفوني مدامعها فقلت للعين: فيضي من دم الكبد فلم أزل بدمي أبكيك جاهدة حتى بقيت بلا عين ولا جسد والله يعلم لولا الله مارضيت نفسي عليك سوى قتل لها بيدي قال: فقلت: أحسنت والله يا أبا الندى وأحسنت ! فهل تعرف من شعرها شيئاً آخر؟ قال: نعم. حضرنا فى زمن الربيع ونحن فى رياض خضرة معشبة، فركب الفتيان، وعقدوا العذب الصفر، في القنا الحمر، وجعلوا يتجاولون. فلما أردنا الانصراف قال بعضنا لبعض: ألا تجعلون طريقكم على الذلفاء! لعلها إذا نظرت إليكم تسلت بمن بقي عمن هلك؟ قال: فخرجنا نؤمها فاصناها بارزة من خبائها، وهي كالشمس الطالعة، إلا أنه يعلوها كسوف الحزن، فسلمنا عليها، وقلنا: يا ذلفاء؛ إلى متى يكون هذا الوجد على نجدة! أما آن لك أن تتسلي بمن بقي من بني عمك عمن هلك؟ ها نحن أولاء سادات قومك وفتيانهم ونجومهم، وفينا السادة والذادة؛ والبأس والنجدة؛ فأطرقت مليا، ثم رفعت رأسها باكية وهي تقول: صدقتم إنكم لنجوم قومي ليوث عند مختلف العوالي ولكن كان نجدة بدر قومي وكهفهم المنيف على الجبال! فما حسن السماء بلا نجومٍ وما حسن النجوم بلا هلال! ثم دخلت خباءها؛ وأرسلت سترها، فكان آخر العهد بها!