جاءت مباريات كأس العالم في صيف عام 1994م رحمة بصاحبنا، فقد فرض المنتخب السعودي وجوده على أرض الملعب فأدى ذلك إلى انتشار اسم المملكة على كل لسان تقريبا في تلك المدينة الصغيرة. لقد كان السؤال قبل البطولة عن النفط والصحراء والجِمال، وتحول أثناء وبعد المونديال عن لاعبي المنتخب السعودي وخصوصا "العويران" وهدفه الشهير. روى صاحبنا غفر الله له أنه سافر في الصيف الماضي إلى مدينة نارا في اليابان لزيارة بروفيسور في التربية كان درس اللغة معه في جامعة يورك حيث كان ذلك الياباني مدعواً للتدريس في الجامعة وكان لابد له من دراسة اللغة عدة أشهر قبل بدء العام الدراسي. قال صاحبنا: ناولني كتابا ألفه باللغة اليابانية عن رحلته إلى بريطانيا، وكنتُ من أبطال ذلك الكتاب؛ حيث أشاد بالأكل السعودي الذي قدمته له في إحدى الأمسيات في بيتي، ولكنه لم ينس أن يذكر أنني كنت الوحيد الذي لديه هاتف جوال وسيارة من ضمن الطلبة الذين درسوا اللغة في ذلك الصيف، وقد شعرتُ وكأنها في سياق الانتقاص مني حيث عُرف الطلبة بالتقشف والإفلاس أحيانا، بينما هذا السعودي يملك كل مقومات الرفاهية. ويتذاكر الاثنان تلك الأيام الخوالي وخصوصا (فرونيكا) الألمانية التي كانت تأتي للقاعة بعبوة الشاي في حقيبتها وتشتري ماء ساخنا فقط تضيف إليه الشاي ليكون سعر قدح الشاي أرخص، وسرعان ما استشرت العدوى بين الطلبة الأوربيين واللاتينيين. يقول صاحبنا تقبل الله طاعاته: كانت أهدافي واضحة، وقد جئت إلى بريطانيا بلغة المرحلة الثانوية، وبعض ما علق باللسان والذاكرة من زيارة سابقة (للدعوة) في الولاياتالمتحدةالأمريكية عام 1993م، وكانت مرحلة اللغة هي العائق بيني وبين بدء الدكتوراه فركزت كل جهدي لها سواء بالانقطاع عن اللسان العربي بالسكن مع أسرة بريطانية وتحاشي مخالطة العرب قدر المستطاع، أو من خلال القراءة المكثفة في كل فن؛ فاللغة لم تكن هدفا في حد ذاتها بقدر ما كانت وسيلة يجب إنهاؤها بأسرع وقت ممكن. وبعد اختبارين في (الآيلتس) حصل صاحبنا على الدرجة المطلوبة بعد تسعة أشهر من وصوله ليبدأ دراسته الأكاديمية. تعلم اللغة لم يتوقف عند هذا الحد فقد كان يحضر بعد ذلك فصولا للغة الإنجليزية في كليات المجتمع غير الهادفة للربح وبمبالغ زهيدة ويحضر دورات متخصصة في تصحيح اللكنة، وفي تنمية المهارات المختلفة واستمر ذلك ديدنه حتى تخرج من الدكتوراه وهو يواصل تطوير لغته بشكل متواصل إدراكاً منه بأن اللغة تنمو وتتطور ولا يحيط بها إلا نبي. لجأ إلى بعض الدروس الخصوصية على حسابه الخاص لتقوية مهارتيْ الكتابة والقراءة الأكاديمية، ومن معلميه في تلك المرحلة (بات) وفي أول لقاء بينهما مد لها بعد نهاية الحصة بمبلغ عشرة جنيهات نقدا، فأخرجت دفتر الإيصالات من حقبتها وكتبت له بذلك سند استلام. يقول صاحبي: قلت لها لا داعي لذلك، قالت: بلى فأنا أدفع الضرائب عن كل جنيه أتقاضاه! قال ولكن هذه نقداً ولا أحد يدري عنك؟ قالت ولكنها بلدي ولا أخونها سواء علموا عني أو لم يعلموا. يقول صاحبي: تركتْ تلك العجوز أثرا بالغا في نفسي زاد منه إحساسا بالوطن الطلبة الذين يتلقون منحا داخلية من الحكومة البريطانية وبمجرد أن يحصلوا على عمل ولو مؤقتاً يسارعون ويوقفون المنحة على اعتبار أن لديهم مصدر دخل كافياً دون أن يطلب منهم أحد ذلك. لم يطلب صاحبنا من الملحقية جنيها واحدا للاختبارات ولا للدروس الخصوصية ولا لتعلم اللغة رغم أنه وفر من مرحلة اللغة سنة وثلاثة اشهر. فقد كان يشعر أن البعثة نعمة كبيرة تحققت وكان حريصاً على أن يقدر تلك النعمة، وأن يكتفي منها بالقليل الذي يعينه على تحقيق أهدافه. (وللحديث بقية).