بكلّ مشاعر الفرح ، وتجليات السعادة ، والغبطة ، والابتهاج يستقبل المسلمون في هذا الكون الواسع شهر رمضان " الذي أُنزل فيه القرآن هدى للناس ، وبينات من الهدى والفرقان " ، ويعيشون أيامه ، ولياليه بالامتثال لأوامر الخالق - عز وجل - " فمن شهد منكم الشهر فليصمه ". والصيام ليس معناه الامتناع عن الأكل ، والشرب ساعات النهار ، بل الدخول في حالة روحانية يتجلى فيها كل مايفترض أن يكون عليه المسلم في سلوكه ، وممارساته ، وقوله ، وفعله ، وما يُبطن وما يُظهر ، من اقتراب إلى الله ، وتكوين علاقة واضحة ، وصريحة مع جوهر الدين الحقيقي كما ورثناها عن ممارسات العظيم عمر بن الخطاب ، وعمر بن عبدالعزيز - رضوان الله عليهما ، وعلى جميع صحابتهما - ، وأن يعيد المسلم فيه مراجعةً ، ومكاشفةً مع نفسه ، وتقويم أسلوب حياته ، وعلاقته بالناس ، والوطن ، وما مدى الصدق ، والحب ، والإخلاص في تعاملاته مع المجتمع ، ومع شؤون الحياة . وهل أدرك بالفعل معنى " الدين المعاملة "؟ وعن الصوم يقول الإمام الغزالي : " الصوم ثلاث درجات: صوم العموم ، وصوم الخصوص ، وصوم خصوص الخصوص ". أما صوم العموم فهو التقيد بالواجبات المعروفة والتي تتلخص بالكف عن شهوة الطعام ، والاندفاع الجنسي. أما صوم الخصوص فهو الكف عن جميع الآثام كغض البصر عما يُذم ، وحفظ اللسان ، وكف السمع عن الإصغاء الى كل مكروه ، " لأن كل ما حُرم قوله حُرم الإصغاء اليه ". ومن جميل قول الغزالي : " أن لا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار بحيث يمتلئ جوفه فما من وعاء أبغض الى الله عز وجل من بطن مليء من حلال ". والموصى به أن يأكل الصائم أكلته التي كان يأكلها كل ليلة لو لم يصم. أما صوم خصوص الخصوص فهو " صوم القلب عن الهموم ، والأفكار الدنيوية وكفه عما سوى الله . ويحصل الفطر في هذا الصوم بالفكر عما سوى الله عز وجل واليوم الآخر، بالفكر في الدنيا إلا دنيا تراد للدين". وفي قول جميل اختُصر الصوم في كلمات جميلة ، ذات دلالات للمتأمل " صومٌ مشروع ، وتأديبٌ بالجوع ، وخشوعٌ لله وخضوع " ، وهو ممارسة تبتعد كثيراً عن الصورة الخارجية المادية له ، إذ إن هذه الصورة ليست بشيء أمام الرمزية التي يجب أن نفهمها عن الصيام ، فهو علاقة سامية مع الله - عز وجل - تتمظهر فيها العبادة الخالصة المخلصة آناء الليل ، وأطراف النهار ، والإحساس بما يعانيه الفقراء في كل مكان من حاجة ، وجوع ، وأوجاع ، ومشكلات مع الحياة ، والاقتراب من هذه المعاناة القاسية وتخفيفها بالفعل الإنساني ، والمشاركة الفاعلة لهم في بأسائهم وضرائهم ، وسغبهم. إن الصوم في معناه الرمزي هو تذكير ، وتذكّر ، وانعتاق كامل بالروح عن كل لهاث خلف الدنيا ، والمنصب ، والجاه..