قلت في مقال سابق بأنني لا اعتقد أن المسئولين في وزارة العمل يعتقدون أن برنامج "نطاقات" سيحل مشكلة البطالة، وقلت أيضاً أن موضوع توطين الوظائف في القطاع الخاص يحتاج إلى خطة بعيدة المدى، أو استرايجية تتداخل في تطويرها وتنفيذها عدة جهات حكومية ولن تكون وزارة العمل سوى واحدة من هذه الجهات. كنت أحمل الأفكار التي طرحتها في تلك المقالات، وأنا أدلف إلى القاعة الصغيرة التي احتضنت اللقاء الذي دعا إليه معالي وزير العمل المهندس عادل فقيه لشرح برنامج "نطاقات" لنخبة من الكتاب قبل اسبوعين تقريباً. لكن الوزير كان محتاطاً جداً ويبدو أنه كان يقرأ كثيرا من الآراء التي طُرحت في الصحف مؤخراً، ولهذا بادر بالتأكيد على أن الوزارة تعرف أن مشكلة البطالة هي مشكلة معقدة، وهي أكبر من حجم الوزارة، وتحتاج إلى خطط طويلة المدى تشارك فيها كافة الجهات ذات العلاقة. ولكنه متفائل أيضاً بأن برنامج "نطاقات" مهم جداً على المدى القصير لأنه سيكون الأداة التي ستخفف من خلالها الوزارة من حدة مشكلة البطالة، وستجعلها قابلة لأن تكون ضمن القضايا الاجتماعية التي يمكن مناقشتها بهدوء في المستقبل. عندما انتهى الوزير من عرضه المختصر والمفيد، وبدأت مداخلات الزملاء وإجابات الوزير عليها، لم أجد ما أعلق به سوى نقطتين رأيت وجاهة طرحها أمام الوزير، ولا بأس أن أعرضها أمام القارئ الكريم. النقطة الأولى ترى أن برنامج "نطاقات" تناول قضية "توطين الوظائف" من زاوية سوق العمل، فقام بتصنيف القطاعات، وحدد متوسط نسبة التوظيف في كل قطاع، وحدد المميزات للشركات المتجاوبة مع البرنامج، والعقوبات للشركات المقاومة أو المتعثرة في نسبة التوظيف. ولكن البرنامج لم يتناول هذه القضية من زاوية الشباب أنفسهم.. الباحثين عن العمل، بل تعاملت معهم وكأنهم مجرد رقم من الأرقام، ونسبة من النسب، ولا أحد يعرف بالضبط ماهي مشاكلهم، ولا مرئياتهم، ولا معاناتهم، ولا طموحاتهم. ولهذا كله أرى أن برنامج "حافز" الذي سيُقدم من خلاله إعانات للباحثين عن العمل، سيوفر فرصة للوزارة بأن تستخلص نتائج محددة عن أسباب البطالة وتطرحها أمام الرأي العام، ومن ثم يمكنها أن تبدأ بمشروع للإرشاد والتوجيه والمتابعة لكل حالة على حدة، وتعتبر أن الباحثين عن العمل هم أشخاص لهم خصوصيات مختلفة، ولهم ظروف متفاوتة، ولهم طموحات متباينة، ولهذا يجب بالفعل أن نفهم كيف يفكرون، وماذا يبحثون عنه، ولماذا يجدون صعوبات في التأقلم مع سوق عمل متغير ومعقد إلى أبعد الحدود. النقطة الثانية التي طرحتها في ذلك اللقاء، تتعلق بأن هناك خشية بأن يصطدم هذا البرنامج الواعد، بالبيئة الإدارية والتنظيمية البيروقراطية المتخلفة التي تعيشها وزارة العمل بكل إداراتها وأقسامها وموظفيها وبخاصة في مكاتب العمل، لأن الحكومة الإلكترونية الموعودة لن تنجح إذا لم يكن هناك فريق عمل مؤهل ومتمكن يستطيع أن يستوعب فلسفتها وطريقتها في العمل، ومن ثم يقوم بدور خط الدعم المتكامل الذي يعمل خلف الكواليس ليقدم الخدمة المطلوبة للجمهور من خلال التعليمات التي يقرأها على شاشة الكمبيوتر. ولهذا فإن الوزير بحاجة إلى أن يلتفت قليلاً أو كثيراً إلى هذا الجانب ويحاول معالجة هذه البيئة المتخلفة بشكل جذري. عوداً على بدء أقول إنني خرجت من ذلك اللقاء أكثر تفاؤلاً، ليس لأن الوزير تحدث بحصافة، وليس لأنني أصبحت مقتنعاً بأن برنامج "نطاقات" يبشر بكبح جماح غول البطالة فحسب، ولكن لأنني شعرت أن المسئول الأول يملك رؤية واضحة، وفهماً عميقاً للمشكلة، وقدرة تحليلية متقدمة لتحديد أبعادها وأخطارها ومنعطفاتها، وهذا ما نفقده لدى كثير من المسئولين الذين ما أن يتحدثوا حتى تشعر أنه في واد، والمشكلات التي تواجه قطاعاتهم في واد آخر، أو أنهم يأخذون من المشكلات قشورها، ويتعاملون باستخفاف مع تداعياتها وآثارها. ولهذا كله -وللموضوع الآخر الذي سنخصص له مقال الاسبوع القادم- نقول إن م. عادل فقيه يستحق الدعم من الدولة ومن رجال الأعمال ومن المثقفين والمفكرين والكتاب وأهل الرأي الذين تهمهم مصلحة الوطن والمواطن. والله من وراء القصد.