تكثر الأماكن التي تغيرت أسماؤها القديمة نتيجة لاستبدالها بأسماء حديثة؛ الأمر الذي أدى إلى نسيان تلك الأسماء التي تغنى بها شعراء العرب. من هذه الأسماء اسم واد فحل ينحدر من عارض اليمامة (جبل طويق) وهو الوادي الذي يمر بمدينة المجمعة بعد انفساخه من المرتفعات الجبلية مشرقاً وهو المسمى حالياً «المِشْقَر» وقد يسميه البعض «وادي النمل» وهذا الوادي لم أجد له ذكراً بهذا الاسم في كتب التراث التي اطلعت عليها مما يدل على أن اسمه القديم استبدل باسم «المشقر» وأغفل الناس ذاك الاسم القديم. وقبل أن نقلِّب صفحات كتب المتقدمين للبحث عن اسمه الذي سماه به أسلافنا دعونا نلقي نظرة على طبيعة ذا الوادي وفروعه. ولعل خير من وصفه في زمننا هذا الشيخ «عبدالله بن خميس» - رحمه الله - حيث قال: (المشقر... واد كبير من أودية «سدير» تقع المجتمعة قاعدة منطقة سدير منه في منفسخة من الجبل وسمى حينئذ «منيخ» ويعانقه هنالك رافد كبير يقال له «الكلب» يأتي من ناحية الشمال الغربي شطر جبل «حًطَّابه» ثم يمضي وينتظم بلدة «حرمة» ثم يأخد مع العبلة...)(1). وقد استطرد ذاكراً فروعه الشمالية والجنوبية، ولكنه لم يورد أي قول من أقوال المتقدمين حول هذا الوادي سواء شعراً أو نثراً. وفي رسم «المجتمعة» ذكر أقوال المتأخرين التي تحدثت عن تسميتها بهذا الاسم فخلص إلى القول: (الأغلب أنها سميت بذلك لأنها ملتقى أودية خصوصاً وادي المشقر وروافده ووادي الكلب، وكانت منطقتهما تسمى «مُنِيْخاً» وبها حصن عل قمة جبل يتوسطها يدعى «حصن منيخ» لا يزال بارزاً، وحدثني أحد ثقات المجمعة أنه بني سنة 830ه.) انتهى كلامه. ولقد صعدت أكثر من مرة إلى حصن منيخ المرمم حديثاً المطل على بيوت المجتمعة الطينية القديمة التي رسمت مع المزارع والنخيل لوحة جميلة تحكي للناظر ما لهذه المدينة من ماض عريق. أنظر إلى الحصن الصورة رقم (1) وإلى البيوت القديمة الصورة رقم (2). وفي رسم منيخ قال: (منيخ.. «الجمعة» وما حولها من واديها: كان هذا الاسم يطلق عليها قديماً ولا تعرف إلاَّ به، أما الآن فقد أصبح هذا الاسم أثرياً، وكانوا قبل يقولون: سُدَيْر ومُنِيخ؛ أما الان فإن المجتمعة التي هي «منيخ سابقاً» قد أصبحت قاعدة ل «سدير» كله، وقد فصلنا القول عن هذه المنطقة في رسم المجمعة بما يعني عن إعادته هنا. وورد ل «منيخ» ذكر في «صفة جزيرة العرب» للهمداني.) انتهى. أقول: إن هذين الاسمين «المجتمعة» و«منيخ» أطلقهما المتأخرون؛ أما اسم الوادي قبل عمارته والإقامة فيه إقامة دائمة فشيء غير هذا. أما قوله بأنه ورد لمنيخ ذكر في «منيخين» للهمداني فهذا القول فيه نظر؛ لإن الهمداني لم يذكر «منيخ» وإنما ذكر «منيخين» وهذا مكان غير ذاك، وقد أفردت للتفريق بينهما بحثاً مستقلاً ينشر إن شاء الله قريباً. أما الاسم القديم لوادي «المشقر» فهو ما سأتحدث عنه محاولاً الاستدلال عليه من واقع النصوص القديمة الواردة بشأنه، وفيما يلي ما قالوه: أولا: قال الشاعر «جرير» في مطلع قصيدة يهجو فيها الأخطل: عرفت ببرقة الوداءِ رسماً محيلا طاب عهدك من رسوم قال ابن حبيب في شرحه لهذا البيت: (الوداء: واد أعلاه لبني العدوية والتيم وأسفله لبني كليب وضبة.)(2). ثانياً: وقال جرير أيضاً في البيتين 11 و12 من قصيدة يمدح فيها «يزيد بن عبدالملك»: هل حلت الوداء بعد محلنا أو أبكر البكرات أو تعشار قال ابن حبيب في شرحه للبيت الأول: والأبكر: أحجار ضخام أمثال البيوت، وتعشار: جبل لبني ضبة. وعلق محقق الكتاب بقوله: «ط: رواها عمارة: الوداء على مثال فعلاء بتحيك الفاء والعين واللام ممدودة قال: وقال: هو واد واسع يسمى الوداء بالكرمة وهي معشبة تجمع الكلأ لضبة وبني كليب وهو تجمع سيل الكرمة، والكرمة: قُفّ غليظ ضخم لبني حنظلة أيمنه، ولبني ضبة أيسره...» وقال ابن الحبيب في شرحه للبيت الثاني: شبرمان: قَرِيّ لبني ضبة وحنظلة والقري: مدفع الماد ومجامعه.(3). ثالثاً: قال الشاعر «ابن لجأ» في قصيدة يرد فيها على جرير: بالوداء يوم غزوت تيماً سقوك بمشرب الكدر الوبيل رابعاً: أما ياقوت الحموي فتحدث عن «الوداء» في مجمعة من حيث الاشتقاق اللغوي للاسم، ثم أحال إلى رسم «برقة الوداء» وهناك قال: (برقة الوداء: والوداء: واد أعلاه لبني العدوية والتيم، وأسفله لبني كليب وضبة قاله السكري في شرح شعر جرير حيث قال: عرفت ببرقة الوداء رسماً محيلاً طال عهدك من رسوم عفا الرسم المحيل بذي العلندى مساحج كل مرتجز هزيم(5). ما يستفاد من النصوص المتقدمة: عرفنا في النص الأول وهو قول جرير: «عرفت ببرقة الوداء رسماً» أن للوداء برقة، ولا بد من التعرف على هذه البرقة. كما عرفنا من قول ابن حبيب أن «الوداء» واد أعلاه لبني العدوية والتيم، وأسفله لبني كليب وضبة. ومعروف أن هؤلاء جميعهم من بني تميم ومنهم وأسفله لبني كليب وضبة. ومعروف أن هؤلاء جميعهم من بني تميم ومنهم الشاعر «جرير» وهو من بني كليب. أما النص «الثاني» فنستفيد من قول «عُمَارَة» أن الوداء واد واسع بالكرمة وهي مشعبة تجمع الكلأ. أقول: معروف أن «الكرمة» هي الطرف الشمالي لجبل عارض اليمامة (طويق). يبدأ طرفها الجنوبي من آخر بلدان «سدير» من جهة الجنوب وتستمر شمالاً لتشمل «المجمعة» و«الغاط» وما ولاهما؛ أما عرضها فيبدأ من منحدرات طويق الغربية حتى المنحدرات الشرقية التي تدفعها فيها سيول هذه الكرمة التي قال المتقدمون إن وادي «الوداء» يقع فيها. ولا أحب أن أسهب في الحديث عنها خشية الإطالة. ووادي «الوداء» الذي نتحرى عنه ينحدر - بلا شك - من هذه المرتفعات المسماة عند المتقدمين ب «الكرمة». أما النص الثالث فنستفيد من قول «ابن لجأ» (وبالوداء يوم عزوت تيماً) أن بني كليب رهط جرير غزوا بني عمومتهم «التيم» وهم في الوداء، وقد عرفنا أن الوداء واد أعلاه للتيم وأسفله لبني كليب. أما في «رابعاً» حيث أورد ياقوت الحموي شرح «السُّكري» لبيت جرير فيستفاد منه أن شرح السكري موافق لشرح ابن حبيب وكذا عمارة فلا خلاف بين الروايات. تحديدي لوادي الوداء: فهمت من النصوص الواردة أن هذا الوادي يجري في «الكرمة» وأنه واد واسع من فحول الأودية، وأن الوداء معشبة تجمع الكلأ لضبة وبني كليب الذين يسكنون أسفل الوادي، كما أنها مكان لتجمع السيول المنحدرة من الكرمة حسبما هو مفهوم من قول «عمارة» وهو صف ينطبق على وادي المجمعة المسمى حالياً «المشقر» ولم أجد فيما قرأته من أقوال المتقدمين من ذكر «المشقر» ما عدا ورود كلمة «المشقر» بفتح الشين وتشديد القاف في بيت للشاعر «الفرزدق» وهو يرد على جرير حيث قال: لعمرك لا يرقى الكليبي منزلاً برهط كليب أو يحل المشقرا وابن حبيب قال في شرحه لهذه الكلمة: المشقر: لعبدالقيس ولا تقدر كليب أن تحله. ولذا استبعد أن يكون الفرزدق قصد بهذه الكلمة وادينا الذي نتحدث عنه. والأودية الكبيرة المنحدرة من «الكرمة» محتفظة بأسمائها القديمة ليبقى لدينا وادي المجمعة المسمى حالياً «المشقر» وجميع فروعه بما فيها وادي «الكلب» المحتفظ باسمه القديم تلتقي به قبل وعند وصوله إلى مدينتي المجمعة وحرمة ماعدا وادي «جُوَيّ» فإنه يلتقي به قبل عبوره جبل «مجزل». وكأني بمن سمى «المجتمعة» بهذا الاسم لم يبعد كثيراً فهذا له أصل إذا حملناه على وصف «عُمارة» لهذا الوادي؛ حيث قال - كما مَرَّ معنا هنا -: «وهي - أي الوداء - معشبة تجمع الكلأ لضبة وبني كليب، وهو تجميع سيل الكرمة». وبدو أنه في زمن لاحق نسي اسم «الوداء» فاستعيض عنه بالصفة الملازمة للوداء وهي كونها تجمع سيل الكرمة كما قال عُمَارة. ولعل أستاذنا «عبدالله بن خميس - رحمه الله - أصاب كبد الحقيقة عند حديثه عن مدينة «المجتمعة» حيث غلب القول بأنها سميت بهذا الاسم حينما قال: «وإذن فالأغلب أنها سميت بذلك، بأنها ملتقى أودية خصوصاً وادي المشقر وروافده ووادي الكلب». ويبدو لي أنه - رحمه الله - لو اطلع على هذه النصوص التي أوردتها هنا - وهو الشاعر اللغوي - لأتى بالعجب العجاب كما هي عادته في الاستطراد والاستنتاج، ولكن مع غيبة هذه النصوص غلب رأيه هذا على الأقوال الأخرى. ووادي المجمعة (الوداء قديماً) تبدأ أعاليه من المرتفعات المحاذية لمدينة «جلاجل» من جهة الغرب، وبالتحديد من قرب «خشم الأديراب» عند درجة العرب 30ً 40َ 25ْ وخط الطول 52ً 14َ 45ْ. وهو يجري باتجاه الشمال محاذياً لمنحدرات طويق الغربية وعندما يجتاز الطريق المسفلت الذي يربط بين «المجمعة» وبين بلدان الوشم يتسع مجراه، وهناك روضة تسمى «المزيرعة» تكثر فيها الأشجار الكبيرة والنباتات بشتى أنواعها وهي الآن محاطة بسياج لمنع دخول السيارات وذلك للمحافظة عليها وعلى جمالها وخضرتها حتى يصوح نبتها، وقد زرتها سنة 1430ه فشاهدت كثرة المتنزهين فيها بحيث يصعب على المرء أن يجد مكاناً للجلوس وسطها نظراً لهذه الكثرة. ويستمر وادينا «الوداء» مشملاً مع ذاك الفج الأفيج بين مرتفعات جبلية، وعندما يصل مجراه إلي مكان واقع على درجة العرض 15ً 50َ 25ْ وخط الطول 15ً 12َ 45ْ هناك يلتقي به وادي «العمار» ووادي «الرويضة والخيس» ثم ينعرج ذات اليمين منحدراً باتجاه الشرق مع ميل إلى الشمال حتى يصل مدينة «المجمعة» وما وراءها على طول مجراه تلتقي به روافده الشمالية والجنوبية. هذا هو وادي «الوداء» الذي تحدثت عنه النصوص وذكره الشعراء في قصائدهم. ولقد كان لي جولات في هذا الوادي وبعض فروعه، وقد خصصت آخر تلك الجولات للبحث عن «برقة الوداء» التي ذكرها جرير بقوله: عرفت ببرقة الوداء رسماً محيلا طال عهدك من رسوم وقد يتبادر إلى ذهن القارئ كما تبادر إلى ذهني سؤال مفاده: من أين لظهر جبل طويق رمال حتى توجد فيه برقة؟! ومعروف أن البرقة تطلق على الحجارة التي تخالطها رمال. وعندما كنت أسبر مع الفج الذي يجري فيه أعلى وادي «المشقر حالياً» واجتزت مدفع وادي «العمار» ووادي «الخيس» في مجراه بدأت أشاهد الرمال تتكثف فوق المرتفعات الشرقية المتطامنة، فقلت هذه - بلا شك - «برقة الوداء» وقد صادف أن الأرض غِبَّ مطر وتزدان بالنباتات فشاهدت الإبل والأغنام ترعى، كما شاهدت كثيراً من آثار المنازل منها القديم ومنها الحديث، ولعل من بين آثار هذه المضارب تلك الرسوم العافية التي ذكرها جرير في بيته المتقدم. أنظر إلى مجرى الوادي، وإلى جانب من البرقة الصور رقم 3 و4 و5، وتبدو الإبل والأغنام راتعة ترعى في هذه الأرض المعشبة. إنها بالفعل مراع جميلة تستحق أن يتغنى بها الشعراء وبمنازل الأحبة فيها تلك المنازل التي طمستها مساحج كل مرتزم هزيم. لست بشاعر حتى أنظم أبياتاً بجمال هذا الوادي وبرقته، ولذا واصلت سيري شمالاً وعندما وصلت الطريق المسفلت الموصل إلى الرويضة والخيس أخذت ذات اليسار، وهناك في «مركز الرويضة» قابلت الأخ الفاضل الشيخ «سليمان بن عبدالله أبانمي» وهو من محبي التاريخ وتستهويه الأماكن التاريخية والأثرية، وعندما سألته عن تلك الرمال التي توقفت عندها قال: هذه نسميها «البرقة» عند هذا أدركت أني تعرفت على «برقة الوداء» فهذا هو وادي «الوداء» وهذه برقته. أملي أن أكون وفقت للصواب فيما قلته. وما التوفيق إلا من عند الله. *الباحث الرياض: بتاريخ 11/7/1432ه الهوامش: 1) معجم اليمامة: عبدالله بن خميس، الطبعة الثانية سنة 1400ه 1980م ص 2/369. 2) ديوان جرير، بشرح محمد بن حبيب، نشر ذخائر العرب، الطبعة الثالثة، ص1/110. 3) المرجع السابق، ص2/643، 4) منتهي الطلب في أشعار العرب: الابن ميمون، دار صادر الطبعة الأولى، ص7/265. 5) معجم البلدان: لياقوت الحموي: دار صادر، ص1/399.