قبل عقود من الزمن، كان المواطنون يسمعون عبارة: "لن أتحدث حتى يأتي المحامي"، وذلك في الأفلام والمسلسلات العربية، حيث لم تكن ثقافة الاستعانة بالمحامي يوماً متداولة في المملكة، وما أن برزت في ظل الحياة المدنية الصاخبة، حتى حصر وعي الناس المحامين في زاوية ضيقة، تتمثل في الاستعانة بهم في القضايا المالية، باعتبارهم في نظر البعض محصلين محترفين وأصحاب بال طويلة، لا يسأمون من روتين تأجيل الجلسات ولا تضيرهم، لكن أولئك المواطنين الذين قادتهم الظروف أو ربما تصرفاتهم لأن يقبعوا في غرف الحجز والتوقيف، هل يدركون أن من حقهم الاستعانة بمحام أثناء فترة التحقيق؟، وهل يعلمون أن من حق ذلك المحامي أن يحضر جلسات التحقيق وأن يطلع على ملف القضية؟. أنظمة واضحة كفلت الأنظمة المعمول بها في المملكة حق المتهم في الاستعانة بمحام أثناء فترة التحقيق، ومكنت تلك الأنظمة المحامي من حق الإطلاع على ملف القضية، لكنها تركت لضابط لتحقيق مساحة ليتمكن خلالها من إجراء التحقيق مع المتهم في أوقات غياب المحامي، حسب ظروف القضية ومدى حساسيتها وارتباطها بقضايا أو أفراد آخرين، فقد أشارت المادة (69) من نظام الإجراءات الجزائية أن: "للمتهم والمجني عليه والمدعي بالحق الخاص ووكيل كل منهم أو محاميه أن يحضروا جميع إجراءات التحقيق، وللمحقق أن يجري التحقيق في غيبة المذكورين أو بعضهم، متى رأى ضرورة ذلك لإظهار الحقيقة"، وأشارت المادة (70) من نظام الإجراءات الجزائية إلى أنه: "ليس للمحقق أن يعزل المتهم عن وكيله أو محاميه الحاضر معه في أثناء التحقيق، وليس للوكيل أو المحامي التدخل في التحقيق إلاّ بإذن من المحقق، وله في جميع الأحوال أن يقدم للمحقق مذكرة خطية بملاحظاته، وعلى المحقق ضم هذه المذكرة إلى ملف القضية". ثقافة ضعيفة وقال "محمد الجذلاني" -القاضي السابق في ديوان المظالم والمحامي حالياً-: إن ثقافة المواطنين في الاستعانة بالمحامي في القضايا المستحقة للتوقيف تعد ضعيفة وقاصرة، نافياً أن يكون ذلك بسبب جهل الناس وعدم إدراكهم، مؤكداً على أن ذلك يعود لعدة عوامل وأسباب متراكمة ومتداخلة، يرى أن من أهمها أن الثقافة الحقوقية بالكامل ضعيفة في المملكة وما تزال في بداياتها، ذاكراً أنه لا يمكن أن نقارنها ببعض الدول التي بها وسائل مطالبة الناس بحقوقهم، بل ويمكنهم من الوصول إليها بكل يسر وسهولة، وفق إجراءات محددة وواضحة لا مجال فيها للتلاعب أو للتقدير الشخصي أو للموظف المسؤول أو مزاجه، مشيراً إلى أن هناك أسبابا كثيرة لا يمكن النظر لموضوع الاستعانة بالمحامي دون ربطها بهذه العوامل مجتمعة. لقاء المتهم بالمحامي يجعله ملماً بالقضية كاملة أقصر مدة وشدد على أن من أهم العوامل المؤثرة في ذلك معرفة الناس بارتفاع أتعاب وأجور المحامين، وأن كثيراً منهم قد يرفض استقبال مثل هذه القضايا خاصةً عند بداية مرحلة التوقيف أو التحقيق، بل ولا يقبلها كثيرون إلاّ عند مرحلة المحاكمة؛ لأنها أقصر مدة وأقل تعباً، وحول منع بعض الجهات الأمنية وجهات الضبط القضائي للمحامي من القيام بدوره على وجه كامل، قال: إنه أمر موجود، مرجعاً سببه الرئيس إلى ضعف تقبل وتفهم كثير من المسؤولين للدور المفترض للمحامي أن يعمل به، لافتاً إلى أن من أهم أسباب تراجع أهمية دور المحامي يعود أحياناً إلى المحامين أنفسهم وواقع مهنة المحاماة، والتي وصفها بأنها تفتقر في المملكة إلى وجود التزام صارم من كل المحامين بآداب ومبادئ المهنة، كالحرص على حفظ الأسرار، وعدم تضليل العدالة أو التأثير على سير الإجراءات، أو عدم تجاوز حدود الدفاع المشروعة ونحو ذلك. تنفيذ الحكم وحول التوقيت الذي يصبح فيه تدخل المحامي في القضايا المستحقة للتوقيف غير ذي جدوى، أوضح أنه ليس هناك وقت محدد يحكم فيه بأن تدخل المحامي يكون غير ذي جدوى إلاّ إذا انتهى تنفيذ الحكم، أما قبل ذلك فإن تدخل المحامي يحكمه ظروف كل قضية، فهناك قضايا قد يتدخل فيها المحامي الواعي ذو الخبرة بعد صدور الحكم واكتسابه الصفة القطعية، فيتبين له وجود مستندات أو بينات جديدة لدى موكله تساعد على طلب التماس إعادة النظر في الحكم، فيعاد النظر فيه وينقض ويتغير اتجاه القضية، بينما على عكس ذلك هناك محامون يبدأون القضية من بداياتها وتكون قضية عادلة محقة، لكن أداء المحامي فيها يكون ضعيفاً، وفيه أخطاء وقصور تؤدي لخسران موكله القضية، بينما كان من حقه كسبها، وذلك لأن القاضي لا يجوز له أن يرشد أحد المتقاضين إلى طريقة الترافع، ولا يبين لهم أخطاءهم ويوجههم في قضيتهم، بل يدعهم وشأنهم ثم يحكم بموجب ما قدموه. محمد الجذلاني أُجرة المحامي لماذا ترتفع نسبة الذين يستعينون بالمحامي في القضايا المالية، وتنخفض نسبة الذين يستعينون به في القضايا الجنائية؟، الشيخ "وهيب الوهيبي" -القاضي السابق بديوان المظالم- يرجع ذلك إلى عدة أمور أهمها القدرة على دفع تكلفة المحامي، مضيفاً أنه على الرغم من ارتفاع ثقافة المجتمع والأفراد في أغلب القضايا بأهمية الاستعانة بالمحامي، إلاّ أننا لا نجد ذلك في القضايا الجنائية، فإذا كانت نسبة الاستعانة بالمحامي في القضايا الحقوقية قد تصل إلى (70%)، فإنها قد لا تصل إلى (20%) في القضايا الجنائية، ذاكراً أن هناك أسبابا لانخفاض هذه النسبة في القضايا الجنائية على وجه التحديد، قد يكون أبرزها عدم فهم الأغلبية العظمى من الموقوفين بحقهم في الاستعانة بمحام، وكذلك عدم إعلام الموقوف من قبل جهات الضبط بأن له حق توكيل محام، مشيراً إلى أن عدم قدرة المتهم على دفع أجرة المحامي تعد سبباً مؤثراً في هذا المنحنى، كذلك هناك سبب آخر وهو وضوح بعض المخالفات والجنايات، مما يدفع المتهمة للاعتقاد بأنه قادر على الدفاع عن نفسه، كما أن عدم تقدير الجهات القضائية لدور المحامي يعد سبباً من الأسباب، وأخيراً الاعتقاد الخاطئ لدى الأغلبية بأن ما ينتهي إليه المحقق يعتبر أمراً مسلماً به. وهيب الوهيبي الإلمام بالقضية وأكد على أن المحامي عامل مساعد للقضاء، لكنه لن يتأتى له ذلك إلاّ بإلمامه بالقضية، وحضور جلسات التحقيق، مبيناً أنه لا يجوز لضابط التحقيق منع المحامي من ذلك، مشدداً على أن المهم هو الوصول للحقيقة، لافتاً إلى أن تدخل المحامي في أي قضية لا يتوقف عند وقت محدد، وقد يتدخل حتى لو صدر حكم ضد المتهم من المحكمة الابتدائية، فيمكن الطعن عليه لدى محكمة الاستئناف أو المحكمة العليا، أو قد تستجد وقائع ليست موجودة أثناء فترة التحقيق والمحاكمة، وذلك من خلال ظهور أدلة جديدة تمكن المحامي من طلب إعادة المحاكمة، موضحاً أنه حتى وأن أقر المتهم بجرمه، فقد يكون لدى المحامي فرصة لتقليل الحكم على المتهم، وذلك من خلال البحث في الأمور التي تقنع القاضي بتخفيف الحكم من الحد الأعلى إلى الحد الأدنى مثلاً. محمد الحقيل مشكلة كبرى وقال المحامي "محمد الحقيل": إن أهم مراحل القضايا الجنائية هي مرحلة التحقيق، مشدداً على أن ما بعدها مبني عليها، وأن كل ما يقوله المتهم أو يقر به أو يصادق عليه، فهو مؤاخذ به، وغالباً ما تصدر الأحكام القضائية وفقا لما صدر من المتهم خلالها، مضيفاً أن المشكلة الكبرى هي أن الناس لم يعوا بعد أهمية المحامي وما أثر النصائح والتوجيهات التي يقدمها لموكله قبل الدخول في مرحلة التحقيق وأثنائه، وإن قلة من الناس هم من يتفهم هذا الأمر أو يعيره اهتماماً خاصاً إذا كانت القضايا صغيرة، لكن الأمر مختلف حينما يكون الأمر متعلقاً بقضايا كبيرة، فهنا تزيد نسبة وعي الناس كما أنه يبرز فيها أهمية المحامي، مطالباً جهات الضبط وكذا جهات التحقيق أن تعرض على المتهم قبل سؤاله عن أقواله إن كان يريد توكيل محام ليرافقه في جميع مراحل القضية، مشدداً على أن نظام الإجراءات الجزائية نص على حق المتهم في الاستعانة بمحام، لكن النظام نفسه منع المحامي من الكلام أثناء التحقيق، وترك له فقط فرصة تقديم ملاحظاته للمحقق بعد نهاية التحقيق ليضم إلى ملف القضية. اللواء د.صالح الزهراني المراحل الأولى وأكد على أن ظروف كثير من القضايا يمنع المتهم من استصدار صك وكالة، حيث يمكن أن الضبط وقع ليلاً أو في أيام الإجازات، فيبدأ التحقيق وعند ذلك يكون عدم وجود الوكالة مبرراً نظامياً للمحقق في منع المحامي من الدخول في هذه المرحلة، حتى لو طلب المتهم دخول المحامي، مشدداً على أن المراحل الأولى هي من أهم المراحل المفصلية التي تبنى عليها الأحكام القضائية، بل هي المرحلة الأهم والأخطر من كل مراحل القضايا الجنائية، وقال: لا نتوقع من المحامي أن يبرئ المتهم من جرم هو ارتكبه وأقر به، لكن ليس كل متهم مذنبا، والقاعدة أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته. من حق المتهم أن يوكل محامياً أثناء فترة التحقيق حتى يطلع على كافة تفاصيل القضية لا زال محدوداً وقال اللواء "د.صالح الزهراني" -عضو مجلس الشورى وعضو لجنة الشؤون الأمنية بالمجلس-: إن وعي المواطن في مجال المحاماة لا زال محدوداً، مؤكداً على أن النظام قد كفل حق المتهم بتوكيل محام، وكذلك أن يتمكن المحامي من حضور التحقيق والإطلاع على ملف القضية، مشيراً إلى أن بعض القضايا ذات الخصوصية قد تتطلب إجراءات احترازية وسيطرة على مجريات التحقيق، من أجل اكتماله والوصول إلى الحقيقة، مشدداً على أن تأثير المحامي يعتمد على مستوى مهنيته، ومدى إدراكه للصالح العام وحقوق الموكل، ذاكراً أن رجال الأمن اليوم يدركون دور المحامي في مسألة الترافع عن المتهم، ويمنحونه حقه في هذا الاتجاه، مبيناً أن ضباط التحقيق لديهم خبرة كافية لتحديد مدى حساسية الاطلاع على ملف القضية، وخاصةً بعض القضايا التي لا يزال فيها التحقيق في بدايته. عملية احترازية وأكد على أن الرهان ليس على مبدأ حضور المحامي من عدمه، فالنظام حسم هذا الأمر وأعطى المتهم هذا الحق، لكن الرهان هو على مهنية المحامي ونزاهته، ومدى إدراكه للصالح العام ولظروف التحقيق، إلى جانب نوع التهمة ومدى ارتباطها بأطراف أخرى، مشدداً على أن التحفظ الذي قد يبديه ضباط التحقيق حول مبدأ حضور المحامي لجلسة التحقيق أو الإطلاع على ملف القضية يندرج ضمن العملية الاحترازية في بعض القضايا، موضحاً أن ذلك يحدث في قضايا استثنائية ومحدودة وذات خصوصية تدفع بضابط التحقيق إلى التحفظ على بعض المعلومات التي قد يدلي بها المتهم، والتي قد تكون متعلقة بجهات أخرى، مشيراً إلى أن عدم معرفة الكثيرين بهذا الحق يستدعي أن يتم إبلاغهم بأن من حقهم أن يوكلوا محامياً، وأن النظام قد أعطاهم هذا الحق.