الطموح والآمال، العاطفة والأماني، نشد الكمال والريادة، قواسم مشتركة ومطالب إنسانية مشاعة لا تتقيد بزمن أو مكان، ولا بعرق أو دين، هي بطبعها كشمس وهواء مدركة للجميع وللكل حق التواصل والتفاعل بها ومن خلالها، بيد أنها - وحتماً - تتمايز إذكاء وتفعيلا بحافز من «إرادة». تحديداً «الإرادة» هي المعقل الأخير والملاذ الذي يجب أن لا يتهاوى وإن تهاوى كل شيء في ذاكرتنا، بالإرادة نستنهض كل مجد وبالإرادة نبني ما تصدع ونقوم ما أعوج، بدونها تدخل الماضي كل حضارة وبدونها يصبح العلية والرؤوس من سقط المتاع. لا نشك - البتة - بأننا أهل حضارة وأصحاب مجد، ولاننسى - ما حيينا - أننا أضأنا الكون بعد أن خفتت حضارات واندرس أقوام، كلها نفائس - بالتأكيد - يشاطرنا بها أمم وخلق كثير، فكما أننا قد شُرفنا بدين فقد شُرّف قبلنا أقوام، وكما أننا أقمنا حضارة وبنينا عزاً فغيرنا سبقنا وغيرنا تلانا، وكما أننا بدعنا علوماً وخلقنا معارفَ فلغيرنا من ذلك قصب سبق ونصيب. معنى ذلك أن الحضارات والأمجاد ما هي إلا دول وتراكمات يبني بعضها بعضاً ولكلٍ المنقبة والمندوحة في مرحلته، إلا أن ما يميز البعض؛ المعاودة والإمساك بالزمام والمبادرة للرهان والنزال من جديد وإعادة الأمجاد جذعة فتية. ولن يسترد مجداً تليداً من رحم التاريخ إلا من كان صاحب إرادة وجليس همة وهذا - لعمري - ما نأمله - كشعوب بسيطة - في أمتنا العربية. فللعرب خاصية مكان ومنزلة ليست لغيرهم من الأمم فهم وإن «لهى» بهم القاصي والادني، وهم وإن استبعدهم الوضيع واسترققهم الدنيء، إلا أن جذوة البروز والتقدم لا تزال متقدة متوهجة تتحين الفرص لتشعل قناديل الحضارة والرئاسة من جديد. أمة تشرذمت وتفتت بعد وحدة، وذلت بعد نفوذ وسطوة، وامتهنت بعد عز وإمرة، أمة تصرف بمكنونها وحُرّف جوهرها وتكالبت عليها صروف الدهر ونوائبه، أمة لن تجد في جسدها شبراً إلا وفيه من الحيف والضم موطئ قدم؛ وهي مع ذلك لا تزال صامدة مقاومة، عروقها نابضة، هي بالفعل أمة تبز غيرها وحري بنا أن ننحني أمامها إجلالاً وإكباراً وأن نقدس فكرها وتراثها ونتعبد بأخلاقها وبلاغتها وفنها التي جاء الدين السماوي متمماً لها، حري بنا أن نستكشف محفزاتها وبواطن مجدها وخلودها. علينا أن ندرك ونعي أنها لا تزال تحتفظ بجوهرة نفيسة تتمثل بحالة «الاجترار» الفاعلة من معين الخلود الثقافي والفكري والديني، تتمثل بحالة «التوليد» الذهني والعاطفي مقابل كل هجمة استئصالية ماسخة تروج لها وتتبناها توجهات ودول امبريالية تعتمد الغزو الفكري والروحي عوضاً عن التزاوج والتلاقح الثقافي والاجتماعي المشروع، هذه الأمة نقشت في ذاكرتها حفراً تليداً يشع وثوباً وإقداماً، حفراً مطرزاً ومزخرفاً بنقش «الإرادة» والاستلهام، أمة لزام علينا أن نعض بنواجذنا على جوهرتها تلك وأن نستبسل في سبيل نقل هذه الروح الفاعلة ليتوارثها أجيال ستظل تورثها الأجيال. «روح الإرادة الفاعلة» هي قطاف كل حضارة ونتاج كل علم، وهي المخزون الاستراتيجي والعميق في جسد الأمة، روحها تلك هي ملهمة ومغذية هذا الجسد النحيل، فلا يموتن هذا الجسد بين أيدينا ولننقله لما بعدنا سليماً معافى.