ومن مفاسد الحضارة الانهماك في الشهوات والاسترسال فيها لكثرة الترف، فيقع التفنن في شهوات البطن من المآكل والملاذ واعتبر به أن غاية العمران هي الحضارة والترف، وأنه إذ بلغ غايته انقلب إلى الفساد وأخذ في الهرم كالأعمار الطبيعية أكثر الأسر في مجتمعنا - على ما أرى وأسمع - تلهث وراء المصاريف، وتصرف دخلها إلى آخر ريال، وكثير منهم يستدين ويشتري بالتقسيط، وبعضهم يسافر بالتقسيط والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه!. ولا يعود الأمر في معظمه لقلة الدخل وانما يعود لكثرة المصاريف وكثير من تلك المصاريف ترف واسراف وهدر وغرام بالمظاهر! قليل العاقل الذي «يمد رجليه على قد لحافه» أو أقل، وإن وجد طيرّ عقله من حوله وخاصة زوجته وأولاده! واتهموه بالبخل وأن ما يدعيه من عقل هو بعينه الجنون! صار الاعتدال والتدبير هو الجنون عند كثيرين من الجيل الجديد، لا أقول كل الجيل الجديد ويمكن أكثرهم من بنات واولاد وربما زوجات يطبخون في البيت ويأكلون في المطاعم ويريدون من يخدمهم في كل مكان!! ويسرفون في استخدام الجوالات في مكالمات لا لزوم لها ولا معنى، فإذا أوقف الأب جوال المحروسة أو المحروس عند حد معين جأر بالشكوى واتهام الأب بالبخل والتحكم! وإذا قال الأب: لماذا لا تأكلون دائماً في البيت حيث الأكل ألذ وأنفع وأنظف وتجعلون للمطاعم يوماً واحداً في الأسبوع بالكثير لم يصغوا له وقالوا في أنفسهم: كل نفس وما تشتهي؟ بل إن بعض الآباء أحمق من أطفالهم الصغار فهو يغرقهم بالترف ويعودهم على الاسراف ويُغْرمهم بالمظاهر فيصبح واقع حالهم ومعيشتهم وعاداتهم على قول الشاعر: إذا كان ربُّ البيت بالدفّ ضارباً فشيمة أهل الدار كلهم الرقص! ٭ ٭ ٭ ومجتمعنا قد تعود الترف والاسراف بشكل غريب! وعلى كافة المستويات.. لدى الأغنياء والفقراء ومتوسطي الحال إلا من رحم الله.. صار الترف والاسراف ظاهرة عامة.. بل طامة!.. ومهما يزد دخل الأسرة عندنا تزد مصاريفها.. بل إن بعض الأسر إذا زاد دخلها زادت ديونها لأنها تغر بالمال الجديد فتنفق بلا حساب! والمثل يقول (لا تغتر بمال ولو كثر)! والاستدانة من البنوك والشراء بالتقسيط والقروض الشخصية أصبحت بالمليارات حتى أصبح ما يقارب ربع الشعب مديناً بالصافي!! أين التوفير والاستثمار؟ أين التفكير في مستقبل الاولاد؟ أين الاعتدال في الصرف ولا نقول التقشف، مع أن (المتقشف) لدينا يصرف ما تصرفه أربع أو خمس أسر في دول مجاورة وليس حاله بأحسن منهم! أين ترشيد الانفاق ومعظمنا يصرف كيفما اتفق ويُحَكِّمُ هواه لا عقله ورغبته الوقتية لا حاجته الفعلية؟ وإن رشد شهراً عاد أشد اسرافاً فيما بعد؟ إن الإسراف والتبذير يهدمان العقل والمستقبل.. والله عز وجل قد نهى في محكم كتابه عن الاسراف والتبذير في آيات كثيرة.. منها قوله عز وجل: {وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذِّر تبذيراً ٭ إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفوراً} - سورة الاسراء الآية 62 - 72 {ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين} - سورة الأنعام الآية 141 وقوله عز وجل: {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا}. وفوق أن الاسراف كثيراً ما يؤدي إلى الافلاس، فإن المسرفين أقل سعادة من غيرهم، وأكثر شقاءً ومللاً، وكذلك المترفون، فإن السعادة تحتاج إلى الاعتدال وبعض الحرمان، ولا يوجد لذة للطعام على شبع، مهما طاب الطعام، ومع الجوع يحلو الطعام البسيط ويلذ ويسعد، فالجوع أمهر الطباخين.. الترف يجعل صاحبه رخواً كقماش ناعم، لا يحتمل شيئاً، ولا ينهض بأمر، ولا يصبر على تغير الأمور، مع أنه غير سعيد وهو يخوض في ترفه، بل إن الترف الزائد يصيب (بالقرف) فعلاً.. فإن المترف خامل خامد الهمة، ملول كسول، لا جديد لديه ولا هدف أمام عينيه، ولايزال الترف يحيط به ويزيد عليه حتى يغرقه تماماً كالماء إذا جاوز الرأس.. والمترف إنسان لا طاقة له على عمل جاد، ولا صبر لديه على تحمل المصاعب والمصائب، والحياة لا تدلل أحداً إلى الأبد، الحياة حبلى ملأى بالمصائب والمصاعب والمفاجآت التي لا يتوقعها أحد.. فكم من غني افتقر، ومن فقير اغتنى، ومن مدللّ كشرت له الدنيا عن أنيابها.. دوام الحال من المحال.. وأسرع من يصدم ويضمحل وقد ينتهي إذا تغيرت الحال المترفون المسرفون! يقول ابن خلدون (الهالكون في المجاعات إنما قتلهم الشبع المعتاد السابق لا الجوع الحادث اللاحق) في كلام طويل له عن أثر الترف في المأكل والملبس على ضعف الإنسان وقلة مقاومته تجده في مقدمة ابن خلدون ص 88 و98. ٭ ٭ ٭ والترف والتبذير والاسراف كما تقضي على الأفراد فإنها تقضي على المجتمعات مع طول الزمن، فتضعف قدرة المجتمع على العمل والإنتاج الحقيقي بقدر افراطه في الاستهلاك الكمالي، وفوق هذا تفسد أكثر الذمم والأخلاق لأن المسرف المترف يريد المال بأي وسيلة وسبيل فيكثر الفساد وتنتشر الرشوة وتضعف الأخلاق ويصبح الحصول على المال بأي وسيلة هدفاً وغاية.. الترف والتبذير والاسراف مجموعة من السوس الذي ينخر بنيات المجتمع بدون أن يحس أهله حتى يأتي عليه شيئاً فشيئاً.. فمع الترف والاسراف ينهار الاقتصاد على المدى الطويل.. ومعهما تنهار الأخلاق.. وتتفسخ القيم.. وقد شرح هذا واضع علم المجتمع العالم العربي المسلم ابن خلدون في أكثر من موضع في مقدمته الفريدة في علم العمران.. وكان مما قال: «.. حين تعظم نفقات أهل الحضارة وتخرج من القصد إلى الإسراف لا يجدون وليجة عن ذلك لما ملكهم من أثر العادات وطاعتها، فتذهب مكاسبهم كلها في النفقات ويتتابعون في الإملاق ويفسد حال المدينة، وسبب ذلك كله إفراط الحضارة والترف وهذه مفسدات في المدينة على العموم، وأما فساد أهلها في ذاتهم واحداً واحداً على الخصوص فمن استمرار الحصول على ذلك الترف والحرص عليه بالتحيل على تحصيل المال والمعاش من وجهه ومن غير وجهه وتنصرف النفس إلى التفكير في ذلك والغوص عليه واستجماع الحيلة له، فتجدهم جريئين على الكذب والمغامرة والغش والخلابة والسرقة والفجور في الأيمان والربا في البياعات، ثم تجدهم أبصر بطرق الفسق ومذاهبه والمجاهرة به وبدواعيه واطراح الحشمة في الخوض فيه حتى بين الأقارب وذوي المحارم! وتجدهم أيضاً أبصر بالمكر والخديعة، يدفعون بذلك ماعساه ينالهم من القهر وما يتوقعونه من العقاب على تلك القبائح حتى يصير ذلك عادة وخُلقاً لأكثرهم الا من عصمه الله، ويموج بحر المدينة بالسفلة من أهل الأخلاق الذميمة ويجاربهم فيها كثير من الناشئة.. وإذا كثر ذلك في المدينة أو الأمة تأذن الله بخرابها وانقراضها، وهو معنى قوله تعالى: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً}. ووجهه حينئذ أن مكاسبهم لا تفي بحاجاتهم لكثرة المصارف ومطالبة النفس بها فلا تستقيم أحوالهم وإذا فسدت أحوال الأشخاص واحداً واحداً اختلّ نظام المدينة وخربت، وهذا معنى ما يقوله أهل الخواص من أن المدينة إذا كثر فيها غرس النارنج تأذنت بالخراب، حتى إن كثيراً من العامة يتحاشى غرس النارنج بالدور، وليس المراد ذلك ولا أنه خاصية في النارنج وإنما معناه أن البساتين واجراء المياه هو من توابع الحضارة، ثم إن النارنج والليَّة والسَّرو وأمثال ذلك مما لا طعم فيه ولا منفعة له هو من غاية الحضارة إذ لا يقصد بها في البساتين إلا أشكالها فقط ولا تُغْرس الا بعد التفنن في مذاهب الترف وهذا هو الطور الذي يخشى معه هلاك المصر وخرابه، كما قلناه، ولقد قيل مثل ذلك في الدَّفلى وهو من هذا الباب، إذ الدفلى لا يقصد بها إلا تلوُّنُ البساتين بَنْورها ما بين أحمر وأبيض وهو من مذاهب الترف. ، بل نقول إن الأخلاق الحاصلة من الحضارة والترف هي عين الفساد، لأن الإنسان إنما هو إنسان باقتداره على جلب منافعه ودفع مضاره واستقامة خلقه للسعي في ذلك..» مقدمة ابن خلدون ص 273 - 473 باختصار وتصرف.. ٭ ٭ ٭ إن إدمان الترف يجعل الإسراف يتضاعف من ناحية، وروح العمل تنهار في الداخل، فيعتمد المترفون على من يخدمهم في شتى المجالات، فيصبحون عالة على الناتج البشري يستهلكون أكثر مما ينتجون بكثير، حتى يحصلوا إلى مرحلة الاستهلاك بدون إنتاج، وهذا عين الهلاك، لهذا فإن الاعتياد على الخشونة والتقشف النسبي وعشق الكفاح والبناء هو الأساس في نهضة المجتمعات.. أما الترف الرخو فهو السوس.