يتقاطع المشهد الشعري القديم في مكوناته وملامحه مع المشهد التشكيلي الذي ارتسم في أعماق الكهوف في الماضي ، وذلك في النقطة التي يتم فيها عرض هذه الفنون أو التي يتم فيها تصوير الحيوانات المختلفة على جدران تلك الكهوف ،وحول مسألة التصوير؛ أرى أن الحالة التي جسّدت تعلّق الرسّام المبدع قديماً بالصورة الواقعية وخاصة التي يعيشها ويتعامل معها هي نفسها التي جسّدت علّق الشعراء القدامى بتصوير الطيور أو الخيول مثلاً ، وهذا يعكس مدى ارتباط الإبداع عموماً بالواقع وعلاقته الأزلية بالصورة كأداة تعبير عما يدور في النفس وما يفور بها من مشاعر ، وهي استعانة يلجأ إليها الشاعر أو الرسّام لإيصال فكرته وإعطاء توهّجها حالة من التكوّن المباشر ، وهذا يتضح أكثر لدى الشعراء الذين استعانوا بتصوير حركة الحيوانات المختلفة وتفاصيلها ، سواء من خلال التشبيه ( عيون المها ، عيون الصقر ، حركة الخيول ، جمال التحليق ، الألوان ، الصفات الطبيعية التي يتميّز بها حيوان عن آخر ...) وكل ذلك لتأكيد صورة الإنسان وحالته ورسم صورة التقاطع بين الإبداعات (الشعر والرسم). وهي هذا المدى الشاسع من حالة التشابك مع الصورة المجسّدة من خلال هذه العناصر الطبيعية يتشكّل السؤال الأهم ، وهو : لماذا يعتمد المبدع (أو الإنسان) في تشبيهاته على الكائنات الأخرى ؟ ..هل هو عجز في التعبير؟ أم تعلّق شديد بعناصر الطبيعة تلك ؟ أم أن ثقة الإنسان بجمال الأشياء من حوله أكبر من ثقته بنفسه؟ .. لا أستطيع صياغة الإجابة الآن ، فربما يكون هناك أسباب عميقة تحتاج إلى دراسة معمّقة لتصف الحالة التي تم من خلالها القيام بهذا الأمر. أما حول مسألة طرقة عرض هذين الإبداعين ؛ نعرف أن عرض الفنون أو القصائد قديماً كان يختلف عن طريقة عرضها في الوقت الحالي ، وهذا ما يخلق نوعاً من التناقض كما يقول محيى المسعودي في مجلة الحوار المتمدّن..وإذا رجعنا إلى العصر الحجري في أوروبا نجد أن هذه الرسوم والمنحوتات مخبّأة في أعماق الكهوف لا يمكن الوصول إليها إلاّ بصعوبة ، وكأن القصد من ذلك الإخفاء هو منع الناس من النظر إليها أو ملامستها أو لأسباب أخرى نجهل بعضها.. وهي بهذه الحال عكس طريقة التعامل مع الفن هذه الأيام . حيث تعرض الأعمال في الجاليريهات والبنالي ويُُدعى الناس إلى مشاهدتها ويقوم النقاد المتابعون بالحديث عنها نقداً وقراءةً وتعليقاً في الاتصال المباشر أو وسائل الإعلام .. هذا التناقض ربّما يفتح الباب حول معرفة الغاية من الفن قديماً وحديثاً ويجعلنا نعتقد أن الغاية الأولى "القديمة" من الفن تختلف عن الغاية المعاصرة . وهنا نستطيع القول إن كل فن يكاد أن يكون محكوماً بغايته التي يعبر عنها بعرضه للناس أو إخفائه . "