يتحدث الناس كثيراً عن قصص العشق وتضحيات المحبين ولكن معظمها قصص لما قبل الزواج وكأن الحب يفقد رونقه معه، إلا أن الفنان الفرنسي (كلود مونيه) سجّل للتاريخ قصة عشق لم تنته حتى انتهى الزواج بموت حبيبته، وعلى الرغم من أنهم قالوا بأن (الجنون فنون) إلا أنه أثبت العكس حيث أصبح ولعه بالفنون جنوناً سيطر على مشاعره في كل لحظات حياته. في عام 1879م توفيت كاميل زوجة مونيه على فراشها بعد صراع دام عامين مع داء السلّ زاده سوءً ضعف جسدها بعد أن أنجبت ابنهما الثاني ميشيل. لم تكن زوجته وحبيبته فحسب بل كانت عارضته التي تعوّد رسمها لأعوام طويلة، حيث كان شغوفاً بدراسة تأثير تغير ضوء الشمس من وقت لآخر ومن فصل لآخر على ألوان الأشياء، إذ آمن بأن الأشياء ليس لها لون محدد وإنما هو متغير بتغير أوقات النهار والليل. في لحظة موتها وكما يروي مونيه بنفسه، تملكه شعور عارم بالحزن والفزع لأنه رأى هذا الوجه الذي اعتاد رؤيته لأول مرة وقد انطفأ نوره. وبعد أن أفاق من ذهوله وجدها أمامه وقد جُهّزت للدفن، متوشحة غطاء أبيض شفاف يشبه الكفن يشفّ عن سواد تحته لعله ثوبها الأخير، وقد ضُمَّتْ يداها إلى صدرها الذي توسطته أزهار رقيقة غطاها ذلك الوشاح، في لحظة تسربت فيها أشعة نور الصباح الأولى من جانب الحجرة، لتسقط برقة على جسدها الفاني. حين رأى مونيه هذا المشهد تملكته رغبة كانت أقوى منه، حيث رآى كاميل لأول مرة تحت الضوء ولكن بشكل جديد، فبشرتها ذابلة ولونها مزرّق وجسدها بارد كالثلج. أخذ مونيه يرسمها بضربات فرشاة عنيفة مضطربة مستخدماً تقنيته في وضع الألوان المتكاملة بجوار بعضها البعض علّها تُحْيِيِ كاميل!! لكن برودة جسدها أبت أن تستجيب لدفء أشعة الضوء، فاكتسحت مسحة من الزرقة الحزينة جلّ اللوحة، وبدا وجهها كوجه مومياء من ملايين السنين رغم كل المحاولات. كلود مونيه، كاميل مونيه على فراش الموت، 1879م، زيت على قماش، 90×68 سم، محفوظة بمتحف أورساي في باريس إن روعة اللوحة لا تكمن فقط في صدق ما حملته من مشاعر وعفوية وليدة اللحظة، وحزن كامن واضطراب صارع المنطق، وإنما هي أيضاً عبقرية التقنية، واحترافية الفنان الذي ظل وفياً لأسلوبه رغم كل المشاعر التي اجتاحته. فالأزرق الذي اكتسح سطح اللوحة في حقيقته مجموعة أزرقات، إذ أن نظرة متأملة للعمل ستكشف عن أربع درجات للأزرق على الأقل، وكذلك البرتقالي والترابيات. كما أن كل فنان يدرك كم هو صعب التحكم بوضع اللون الأسود بجوار هذه الألوان الفاتحة دون أن يعكّر صفوها وهو أمر نجح فيه مونيه حين رسم رداء زوجته تحت وشاحها الأبيض الشفاف. ومن عبقرياته الأخرى في هذا العمل نجاحه في إشعار المشاهد بالتجسيم والبعد في الصورة على الرغم من أن المشهد بأكمله لا يحتوي على خط واحد يفصل بين المساحات ويوجه النظر، إذ ندرك بوضوح أننا ننظر إلى امرأة مستلقية على سرير أمامنا، ونشعر بارتفاع جسمها واستدارته من تحت الغطاء، كما ندرك حجم الوسادة على الرغم من غياب الخطوط وكونها جميعاً مساحات مدموجة معاً ومع خلفية اللوحة. كما أن نظرة إلى الزاوية العلوية اليمنى في الخلفية تكشف عما يشبه طيف لوجه إنسان مما يجعلنا نتساءل عما إذا كان مونيه قد تعمد رسمه ليوحي بروحها التي غادرت جسدها لكنها هيمنت على المكان واللحظة.. لكن الطريف في هذه القصة رغم كل شاعريتها أنها كغيرها من قصص الحب مخيبة للآمال، حيث أن مونيه تزوج بعد وفاة كاميل من امرأة أخرى بل وتكفل برعاية أبنائها الستة من زوجها السابق! لكنه على الأقل أحبها حتى الموت، وأشهد العالم على هذا الحب.. جزء مكبّر يكشف عما يوحي بأن يديها مضمومتان إلى الصدر وبينهما مجموعة أزهار بيضاء وحمراء ضاربة إلى البرتقالي